رقصة الصراع- انطباعات كاتب تونسي عن المرأة الموريتانية

أربعاء, 07/25/2018 - 19:01

 
وأنت جالس في خيمة عربيّة أصيلة في قلب العاصمة نواكشوط، ترى الموريتانية قادمةً في عتمة اللّيل كأنّها يراعة مضيئة خرجت تستنشق نسيم الكرى في أماسي الرّبيع. إنّها - من بعيد – على صورة يمامة يتمادى بها الأيك، وإنّها - من قريب - كأنّها قطعة بستان قرّرت الرّحيل من مكانها لكي تنتجع في جوار مياه النّهر الشلاّلة. ويحار النّاظر أن يفهم، هل الوشيُ الذي على ملحفة هذه الموريتانيّة البديعة هو من صنع البشر، أو هو جزء ربّاني من هذه الخلقة البديعة المتسربلة في أمتار من السّندس، والماشية على بسائط الاستبرق المزركش. 

ولستَ، أيها النّاظر سوى عند باكورة الأعاجيب. فتلك الموريتانيّة، لا تطول بها الثّواني، حتى تقترب منك، وتسبقك بين يديها لغة موجات لا أخال أهل الفيزياء قد فقهوا ترميزها، وتجلس حيث انتهى بها المجلس، لا فرق عندها أبداً أن يكون بجانبها حيث جلست شيخٌ مهيبٌ، أو شابٌّ أريبٌ أو بعيدٌ أو قريبٌ. تستدير الموريتانيّة قبل الجلوس في نصف دائرة، كتلك النّحلة الرّاقصة التي تحوم حول بتلات الزّهر تسترقُ أيسر السّبل لجني الرّحيق النّصوح، ثم تهوي بالجلوس، مسلّمة، مبتسمة. إنّها تستوي في جلستها، بجانب أخيها الرّجل، وتتبادل معه أطايب الحديث، كأنّها ومحدّثها في خاصّة أسرتها. وفوق كلّ ذلك، لا تريبك من المورتانيّة ريبة، ولا ترى من حركاتها تبذّلا أو تصنّعا، ولا تناديك أعطافها لبؤس المظانّ، فتفرض عليك احترامها فرضا، وتقحمك رغما عن أنفك في عالم فسيح من البساطة في أرقى وأجلّ معانيها.

حين تجلس الموريتانيّة بجانب الكهل في الحفل الشعريّ العربيّ، تراها كأنّها أقاحيّة نبتت في أصل زيتونة وارفة الظلّ، وحين تجلس بجانب الفتى الصّغير، وتفتح كتاب الشّعر وهي تتأمّل في صفحاته على ضوء أسورتها الذّهبيّة البرّاقة، تراها كأنّها دوحة النّخيل، وهي حانية في بهاء القدّاس على صنوها الصّغير. 

وأنت لم تهضم بعد ولم تستوعب ما يحصل أمام عينيك، تأتيك موريتانيّة أخرى مبتسمة، محتشمة، ترمى بطرف ملحفتها خلفها في حركة بارقة لتخفي نصف وجهها الوضّاء خلف حرير ملحفتها الموشاة، وتستأذنك وهي آمرة : هل لي أن ألتقط صورة معك يا أستاذ؟ أي، والله، فتقف – أيّها الأستاذ - كالطّفل الوديع وتنتظر التقاط الصّورة، ولا أحد من حولك ترى في عينيه مقدار ضيق عين الإبرة من الاستغراب، فالكلّ هنا في عفويّة تسبّب لك جلطة في رواسب الطّمي المتكلّس في ذاكرتك الثقافيّة.

تلتفتُ ناحية شمالك، فتنكسر عيناك في عينيْ أستاذٍ ليبيٍّ بجانبك، فيطرِّم شفتيه تعجّباً ويقول لك : "انحبس فهمي". وتلتفتُ ناحية يمينك فيتماهى لحظك الأيمن مع لحظ رجلٍ جزائريّ يقول لك مندهشاً : "ما فهمتُ والو" ...

لقد قرأتُ فيما مضى، في كتاب تحفة النظّار وعجائب الأمصار لابن بطّوطة الطّنجي شيئا من هذا القبيل عن هذه البلاد، وقلتُ وقتئذٍ : إنّها مبالغات الرّحالة. لكنّني اليوم أشهد : أن هذه القطعة من الأرض أعجوبة لم يسعفني الحظّ أن أقف على حقائقها إلا هذا المساء، في الأمسيّة الشعريّة، بمناسبة عيد اللغة العربية. ترى الموريتانية الشاعرة، وقارئة القرآن، والأستاذة، والكاتبة، والمعلمة، والمغنية، والعازفة، والمنشدة، والمهندسة والطّبيبة. ترى البيضاء، والسّمراء، والسّوداء، كلّهن كالنّوارس المتراقصة على أشرعة المراكب، لا يشعرنك بشيء من العقد ولا التّعقيد ولا زيف العقائد. حتّى أنك، وأنت تشاهد هذا العجب، لا تستذكر سوى مآسي التعقيد الذي وصل إلينا من عهود غابرة، مما جعل النساء في عالم والرجال في آخر. 

من هو الكُذُبْذُبان الذي زعم أن حريّة المرأة إنتاج غربيّ؟ من الأحمق الذي صدّق بتلك التخاريف؟ ومن هو منكود الحظ الذي لم يطلع على حقيقة حياة المرأة الموريتانية في هذه الناحية من الوطن العربي المسكين، الذي ولّى وجهه قبل الشمال، وفي جناحه ما يدهش ذوي الألباب؟؟

هنا في موريتانيا، المرأة الموريتانية ربّت الرجل. ثم جلست بجانبه مرتاحة البال. فارتاحت وأراحت.

من كتاب : نوادر الأيام، نواكشوط، موريتانيا، جمادى الآخرة 1438