تُعْتَبَرُ اللغةُ العربيةُ، مَرْكَزَ هُوية العرَب، الذي منه أخذوا اسْمَهم، حيث نقلت الانتماءَ من خصوصية العِرْقِ، إلى شُمولية الثقافة؛ فتَمَاهَى المُسْتعْربُ مع العَارِبِ، ثم اتسعت عوْلمَتُها، منذ رسَّمَها اللهُ- جَلَّ وعلا- لغةَ للرسالة الإسلامية الكوْنية، لكن- عشقنا لها، وتدَلُّهَنا بأسْرار بلاغتها- لا يُعْمِينا عن كوْنها مَحْبوبة صعْبةَ المِرَاس، فإذا كانت اللغات- عادةً تُقْرَأُ لِتُفْهَمَ، فإنَّ اللغةَ العَرَبيةَ تُفْهَمُ لتُقْرَأ، ولتُكْتَبَ، وهذا ما يجعلُ قراءتَها اليومَ- إذا لم تُضْبَطْ بالتشْكيل- شِبْهَ مُسْتَحيلةٍ، لاسيما بالنسبة لمن لم يكتسبْ سَليقتَها (مَنْطِقَها الداخلي الفِطْري).
ويُضاعِفُ هذه الصُّعوبةَ، أنَّ ضرورةَ التشْكيل، لا تقتصر هنا على أواخر الكلمات، المُتغيرةِ الحَركات، بتغيُّر عوامل الإعراب؛ رفعًا، ونصْبًا، وجرًّا، وجزْما، حسب قواعد (علم النحو)، بل إنَّ ضرورة التشْكيل، تتجَلَّى أكثر في(علم الصرف) حيث يجب ضبْطُ حركاتِ جميع حروف الكلمة، لأنَّ تغيرَ الحركة في أي حرْف، لا يغير الوزن(بنْيَتَها الصرْفية) فحسب، بل يغير الصيغةَ، والدلالة طبْعا.
ومادام “الإعراب”- كما يقال- مندرجٌ تحت المعاني، وكذلك( الصرف)، و( البلاغة )، وجميع فنون العربية، فإن كلَّ ذلك لا يُمْكِنُ فَهْمُه إلا من خلال المادة العضوية (الخام) للغة العربية، المتمَثِّلة في الثرْوة المعْجَمِيَّة( المفردات).
وهكذا يتجلَّى أنَّ هذه اللغة ليست عِلْمَا بسيطا (أحادي البنية)، وإنما هي عدة علوم متكاملة، لا يُمْكِنُ فهْمُ بعْضها دون بعض، مما يزيد صعوبة امتلاك ناصيتها، والتحكم في جموحها، ولا سيما في عصرنا الراهن، عصر السرعة، والكسب السريع، وسهولة التواصل.
غير أنَّ هذه الصعوبةَ المَشْهودةَ، والمعْهودة، تقتضي التسْهيلَ، لا التساهُلَ؛ لأنَّ الأولَ يكفلُ لها سيْرورتها وصيْرورتها، ومِنْ ثَمَّ تَجَدُّدَها بيُسْرٍ وسُهولة، في حين يؤدِّي التساهلُ- المُبَالَغُ فيه- إلى تفَكُّكِ نظامها الداخلي، وانْحلال قواعِدِها العاصِمَة، وتحوُّلها على ألْسِنَةِ الجُهَّالِ بقواعد نُطْقِها وبِنائها إلى مُجَرَّدِ لهَجَاتٍ، كما حدثَ للغة اللاتينية وأخواتها، التي انقرضت عبْر التاريخ، ولم يبقَ إلا بناتها الهَجِينَة.
إنَّ هذا يُمكنُ أنْ يَحدث لأيِّ لُغَةٍ في العالم باعْتباره تغيُّرا طبيعيا، ناتجا عن تفاعُلها مع حَواضِنِها الجغرافية، والتاريخية، وحتى الحضارية، ولكنَّ اللغة العربيةَ نتيجة حمولتها الدينية المقدسة، من حيث تنزُّلها لغةً للقرآن الكريم، ظلتْ بمَنْأًى عن ذلك التغيُّرِ الجِذْري، رغم صِفَتِها الكوْنية التي مَنَحَها لها تَمَاهِيهَا بالدين الإسلامي مُحْتَوى وأداءً، فكانت تستوعبُ حضاراتِ الشعوب والأمم الداخلة في دِينِ الله أفْواجا، دون أنْ تتَفَجَّرَ من الداخل، ولا أنْ تتَصَدَّعَ -كثيرا- من الخارج، لأنَّ أغْلبَ العلماء، وحتى منْطِقُ الأشْياء، يَعْتَقِدُ ضمانَ الله لحِفْظِها، بمُجَرَّدِ تكَفُّلِه بحفْظِ القرآن الكريم(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)- “سورة الحجر”.
ومن هنا تضافرَت جميعُ علومِ اللغة العربية، الناشئةِ في حِضْنِ الإسلام، من أجْل تحْصين هذه اللغة “المقدَّسة”، من سطْوة الروافد والمُؤثَّرات اللغوية والتاريخية والحضارية العاتية، التي بدأتْ تتفاعلُ معَها منْذُ نزلَ الإسلامُ بها للناس كافة؛ وهكذا نالَ الاشتغالُ بهذه العلوم “الخادِمَةِ” نصيبَه من القدسية والتعَبُّدِ، التي يتمتَّعُ بها القرآن “مَخْدُومُها” تطبيقا لقاعدة:”أنَّ مالا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجب”.
وفي ضوء هذا كانت أغلبُ الأقلام والعقول التي سُخِّرَت لخدْمتها وحِمايتها، تنتمي-نسبًا- لغير العرب، مما يعْنى أنَّها كان من المفْروض أنْ تكونَ جزْءًا من الثقافاتِ والحضاراتِ الوافدةِ المُهَدِّدَةِ لأنْظِمة العربية، لكنَّ قدسيةَ اللغة وحفظَها الإلهي المُشارَ إليهما سابقا، كانا كافييْن لتحويل” الدخلاء”، على هذه اللغة حُماةً لها.
والخلاصة، أننا-على قدْر فهْم صعوبة اللغة العربية هذه- ينبغي أنْ نسعى لتسْهيل، تعلُّمِها، واكتسابِ مَلَكَاتِها، ومَهاراتها، بشكلٍ وظيفي، يركِّزُ على اسْتِبْطان القواعد، أكثر من اسْتِظْهارها، لأن ذلك هو أصْلُ الفِطْرة اللغوية المَرْكُوزة فينا، فوضْعُ القواعد جاء متأخرا، بعد فساد السليقة العربية الأصيلة، وتعقيدات الحضارة.
أجَلْ، قبل وضْعِ علوم العربية، كانت هناك النصوص، حيث يَتَشَبَّعُ المُتَعَلِّمُ للغة العربية، بمنْطِقها العِلْمي، عبْر التفاعل الخلاق مع نصوصها، وتَفَهُّمِ سياقاتها، تناولا وتداولا، فلْنَدْرُسْ القاعدةَ من خلال النص، أكثر من قراءة النص من خلال القاعدة.
تلك مهمتنا جميعا.