في بلاد التناقضات الكبرى تستنبت القبائل القوية – بعد حين – أطرافها المبتورة، تماما كما تفعل أنواع من الزواحف والسلاحي، بفارق أنها تختلف كل َمرة عما كانت عليه بحيث تصبح أبلغ سما وأمضى فتكا، وأبرز أشواكا شديدة الوخز والإيلام.
إنها المنظومات التي أهلت نفسها وتعهدت لذويها، منذ كانت الدولة المتقمصة “السيبة”، بمسايرة التحولات ولعب أدوار فيها، تحقيقا للبقاء في كل لعبة تستجد. وقد شحذت لأجل أهدافها أدواتها الرجعية الحادة من غير إكتراث بما يحل بالوطن من تأخر على خلفية نهب مداخيل المقدرات ومقايضتها مع الشركات العالمية الكبيرة مقابل فتات من تحت الطاولة، وكذلك أعتماد التحايل على ميزانيات القطاعات العاجزة.
ولكن الأخطر أنه في ظل هذه الأجواء، الرجعية بعقلية سيباتية صارخة، يتعلقُ الشعب المصاب باتفصام الشخصية المزمن بأهداب أوهام مهلهلة من الوعي الناقص، المتأرجح بين:
ـ الخوف المبرر من الحاضر القلِق والتأثير اللا إرادي العميق بالقوالب الماضوية،
وبين:
ـ نخبة متعلمة ولكنها مَنكوبة عقليا ومكبلة بأصفاد الرياء والإدعائية وأغلال خيانة مواثيق العلم والثقافة، وماضية في النكوص بعهود المعرفة واستصاغة غياب المخرج المتوج لجهد البحث و التأليف والنقد، وكذلك نبذ العمل ونهج مسالك الطمعية الرخيصة.
وقد تَمخضت هذه الوضعية العصية على فهم المتابعين لشأن المنكب والمهتمين بمساره السياسي، إذ يختلط عليهم الأمر فلا يستطيعون قراءة مستنيرة ومحيطة شاملة ولا بناء تحليل منطقي قويم لتداخل ما يأتون متحلين به من خارطتهم المعرفية عن البلد ورسخ عندهم في الأذهان من الاوصاف السامية من ناحية، وما يكشفه لهم الواقع عند الاحتكاك من سوء أحوال على كافة الأصعدة المادية والمعنوية والحضارية والمدنية والعلمية والثقافية في جميع فضاءاتها المتخصصة، غيرما يشاهدون في كل أرجاء العالم، من العمارة ومميزاتها والمسارح ورسالتها، والمكتبات وإشعاعها، والساحات العمومية وجمالها، والبنى التحتية اللائقة والخدمية المتنوعة وانتشارها. ولكنهم على العكس من ذلك يخيل إليهم أنهم وصلوا إلى “المنكب” على متن مركبة عابرة للزمن وقد أرجعتهم إلى عصور غابرة ليس فيها حتى “مربد” للشعر تحمل فيه القوافي رافعات همم و حافظات قيم. بعضهم تذهله “الارتجالية” التي شطبت مفردتها ودلالتها من قواميس لغات كل الشعوب، وتشبث في المنكب بكل قشة يحملها إليهم السيل الجاري للهموم التي يفيض بها من:
ـ أمطار الخلافات البيزنطية،
ـ والمغامرات الطمعية،
ـ واستسهال التحصيل بالمكر والنفاق والتواطئ والتآمر والمغالطات؛
خلافات لا يهدأ لها قرع الطبول ولا تتوقف المكايد وإعداد المصايد السياسوية والشراك التسييرية والفخاخ الحقوقية وإشعال الحرائق في سوحها لإخمادها من بعد بالمال ثم التحصيل من ورائها في غياب البناء وإصلاح الشأن
وتظل “حليمةُ”، في هذه السيزيفية العبثية، “سيدةَ” الحالة العبثية، ُتُجاهرُ بعادتها عند كل منعرح أو مستجد أو استخقاق، ويظل الرياء وتدهور القيم وسيادة المال العام المنهوب من الخزينة العامة بلا رحمة، والحاصل من حريمة بيع الممنوعات والأدوية المغشوشة والمواد الغذائية المنهية الصلاحية و تبييض المال، بلا وازع ولا رادع، والتغطية بلي أعناق النصوص الفقهية بلا مستنكر؛ يظل كل هؤلاء “عملة” التبادل و”مرجع” التفاضلية لتمييع المسار إلى دولة القانون والمواطنة.