
خرجت "مين" من الشقة بخطوات حذرة، تلفّ جسدها بملحفة شفافة، يكشف عنها النسيم البارد كلما تحرك. الفستان الذي ترتديه تحته يبرز لون ساقيها، وذراعيها المكشوفين يتلألآن تحت ضوء المصابيح الخافتة في الممر. كانت الشوارع شبه فارغة، والأضواء المتناثرة من نوافذ الشقق تعكس الوحدة التي تخيّم على المكان. أصوات ضحكات بعيدة تحملها الرياح، ربما من بعض الساهرين في المقاهي القريبة.
تحركت بسرعة، وكأنها تحاول الفرار من أفكارها. كعباها العاليان يطرقان الأرضية الإسفلتية بصوت متقطع، غير مستقر. دلفت إلى زقاق ضيق يؤدي إلى الشارع الرئيسي، تشعر وكأن العتمة تطاردها، تبتلع ظلالها خلفها. كانت تحاول تجاهل الإحساس الثقيل الذي يخيّم على قلبها.
عندما وصلت إلى الشارع، وقفت للحظة، سمحت للهواء البارد بأن يعبث بشعرها الطويل، الذي انسدل على وجهها مع طرف الملحفة. أخرجت يدها الرقيقة إلى حقيبتها الجلدية التي علقتها على كتفها الأيسر، تحسست الأوراق المالية التي دسّها في جيبها قبل قليل، لكنها لم تحاول عدّها. كانت كافية على أي حال، أو هكذا أقنعت نفسها.
لمحت ضوء سيارة قادمة من بعيد. رفعت يدها ولوّحت للسائق، فتوقفت السيارة على مقربة منها. انخفض زجاج النافذة ببطء، وانكشف وجه السائق وهو يرمقها بنظرة متفحصة. ترددت لوهلة، لكنها اقتربت ثم قالت بصوت هادئ:
— "أنا قادمة من المستشفى، كنت مع صديقة..."
أومأ السائق برأسه، ثم فتح الباب لها دون أن يعلّق. ما إن جلست حتى استنشق بعمق، كما لو أن رائحتها اخترقت أنفه قبل أن تلج السيارة بالكامل. انشغلت هي بإصلاح ملحفتها، لكن نظراته لم تغفل عن ذراعها الذي انحسر عنه قليلًا. تظاهرت بعدم الملاحظة، لكنها كانت تدرك تمامًا أنه يراقبها.
— "إلى أين؟" سألها وهو يحوّل نظره إلى الطريق.
تمطّت قليلًا في مقعدها، ثم ردّت بصوت ناعم:
— "لا أدري... أشعر بالجوع. أريد دجاجًا أو أي وجبة دسمة، لقد كان يومًا طويلاً."
ابتسم السائق وهو يدير مقود السيارة نحو قلب العاصمة:
— "سنمر على مطعم، لا يمكن ترك معدتك فارغة."
ضحكت، وكشفت عن أسنانها البيضاء اللامعة، بينها واحدة فضية تعكس الأضواء.
— "ولا تنسَ علب اللبن، غول معدة والدتي أكثر شراسة مني!"
توقفت السيارة أمام مطعم الأمير. نزل النادل على الفور، وانتصب بجوار النافذة ينتظر الطلب.
— "أريد دجاجة كاملة، مشوية بالبهارات، ولا تنسَ الكيك."
رمقها السائق بنظرة أطول هذه المرة، كأنه يعيد تأمل تفاصيل وجهها تحت ضوء الشارع، وكأن هناك شيئًا في عينيها يثير فضوله أكثر من أي شيء آخر. عندما استلم الطعام، أعطى النقود للنادل، ثم استدار نحوها قائلاً بنبرة دافئة:
— "العاصمة هادئة في مثل هذا الوقت، لكنها تخفي الكثير من الأسرار... مثل عينيكِ تمامًا."
ابتسمت، لكن نظرتها كانت تحمل ما هو أكثر من مجرد مجاملة عابرة. هناك شيء في أعماقها، شيء لم تقله بعد...
تابابع...بقية القصة