المجتمع وميتالوحية الخرافة والشعوذة
لم يسلم مجتمعنا في مرحلة من مراحله تاريخ وجوده الضارب في القدم من الاعتقاد ببعض الشوائب التي عمقتها في عقله الميتالوجيا الاجتماعية. فقد اعتقد قديما بالخرافات التي كان السودان يعتقدون فيها ويتصورون أن تعليقها يجلب الخير، والعبث بها يجلب الشر والبغض والكراهية بين الناس.. ولا شك أن مثل هذه المعتقدات كان سائدا في الشعوب السودانية التي ورث مجتمعنا بعض حضارتها مثل شعب مملكة غانا وقصتهم مع "البندا" التي كان في اعتقادهم أنها وراء وجود القوة الحقيقية للمملكة.
هذه الخرافات التي ترسبت في المجتمع من جراء احتكاكه بالسودان وغيرهم من المجتمعات التي سادت في المنطقة إبان ظرفية معينة، وتلاشت مع ظهور مجموعات أخرى تشكلت منها المجتمعات التي قامت في المنطقة، تركت بصمة عمقتها ورسختها الاجيال التي تعابق بعد ذلك.
وقد ظلت ثقافة هذه الشعوب الغابرة حاضرة في مسلكيات التركيبة الاجتماعية، وأحكمت قبضتها وانتشرت بفعل مخيلة السكان ،وبذلك فرضت – المسلكيات-وجود ها وسيطرة قوتها على المجتمع.
ومن ضمن المسلكيات التي ورثها المجتمع بفعل سيطرتها على عقله المتخلف-الذي يَعْتَبِرُ العدول عن هذه المسلكيات ضرب من المستحيل -عادة احتفاظ المرأة عند النفاس بملازمة والدتها بغرض رقابتها من الجن، خاصة مع حلول المساء حيث يفترض أن يجلس شخص خلفها.. وفي المخيلة الجمعية للمجتمع أن عدم ملازمتها و تركها بمفردها طيلة خمسة وأربعين يوما يجعلها عرضة للجن...ويلازم هذه العادة تقليد حلاقة رأس المولود يوم اسمه.زورغم أن لا وجود لشيء من الدواعي لهذه المسلكيات التي كانت جزء من وضعية وظرفية معينة، تختلف عن الوضعية والظرفية في زمننا الحاضر..ما تزال العادة متجذرة بقوة.
ومن المتلازمات التي كانت جزء من متلوجيا الأسطورة الخرافية تكحيل خدود النفساء ووضع سكين بالقرب منها تحفظها من شياطين الجن..ومن القصص الكثيرة المتداولة في هذا السياق والتي لا يمكن حصرها:
أن حكيمة ورثت عن جدها خدمة السر، ومعالجة المجانين.. فالحكيمة بفعل قوة ما ورثته عن جدودها من السر جعل بإمكانها السيطرة على الجن واستغلالهم حسب ما تحكي القصة.. ويمما تحكي القصة أن ابنة الحكيمة رزقت غلاما في وقت متقارب مع ولادة ملكة من ملكات الجن، التي أرسلت على الفور بإحضار الحكيمة لتولدها.. وعلى جناح السرعة أحضرت الحكيمة وباشرت توليد ملكة الجن، وقد وضعت الملكة وليدا أزعجها بصراخه، فأسرت إلى إحدى مساعداتها بإحضار ابنا من الإنس، وأحضر لها في الحال طفل، وتنبهت الحكيمة إلى أن الطفل الذي أحضر ليستبدل ببن ملكة الجن حفيدها..فكرت الحكيمة في وسيلة تنقذ بها حفيدها من ملكة الجن، فعمدت إلى إبرة كانت تحتفظ بها في شعر رأسها وغرزتها في قدم الطفل فصرخ وبكى بكاء شديدا أزعج ملكة الجن حتى طلبت من مساعدتها أن تعيده إلى حيث أخذته.
وعندما عادت الحكيمة من مملكة الجن إلى خيمتها وجدت الطفل مواصلا في بكائه، ووالدته مهمومة لأمره، فعمدت إلى الإبرة واستلتها من قدم الطفل فعاد إلى صمته وهدوءه.
وكثيرة هي القصص التي تدعم متلوجيا الخرافة التي يعيشها مجتمعنا.. ويعتقد اعتقادا جازما بحقيقتها.. مثل ما يعتقده البعض من وجود قوة خارقة عند البعض من اللذين يستغلون الشعوذة، تمكنهم من تحويل الأشياء الغير محسوسة، وليست ممكنة إلى حقائق ذاتية محسوسة يصرفها الإنسان ويستغلها في حياته..مثل تحويل الورق بعملية تبييض إلى نقود عينية يمكن التعامل بها، من أن غير أن يكتشف المستهلك أنها مزيفة.. وهذه الأنماط من التحايل أصبحت منتشرة في مجتمعنا بحيث صارت وراء الثراء الفاحش لبعض من الذين أتقنوا الحيلة، وظفروا باستدراج الطبقات الغنية من أمراء ورجال أعمال في الخليج.
وقد وقع عشرات من الأثرياء الموريتانيين ضحية شبكات المشعوذين من جنسيات أجنبية افريقية ، نيجيريا ، وغانا.. ففي تسعينات القرن الماضي استهدفت عصابة من الشبكات الأجنبية رجل أعمال ينحدر من إحدى الولايات الشمالية، واستدرجته للوقوع في شراكها، بأن لديه فرصة الظفر معها ب10 مليون دولار، إذا دخل معها في عملية تبيض يدفع – رجل الأعمال- لنجاحها 30 مليون من الأوقية.
وحتى يتأكد رجل الأعمال من نجاح العملية، ويبعد الشكوك عن نفسه أخضع الشبكة لمجموعة الاختبارات، حيث طلب منها أن تبيض له مبلغا من الأوقية إلى دولار، ونجحت العصابة في تبييض مبلغ مليون من الأوقية مقابل 10 آلاف من الدولار..وذهب وعرضه على خبراء في معرفة الحقيقي من المزيف من النقود في سوق العملات ووجدها سليمة % في المائة.
وعندما تغلب احتيال العصابة على الشوك التي كانت تساور رجل الأعمال حول طبيعة عملها.. وافق -رجل الأعمال- على عرض العصابة، وقدم لها مبلغ 30 مليون من الأوقية، مقابل تبييض سيحصل من وراءه على مبلغ 10 مليون من الدولار.
وأحضرت الشبكة حقيبة كبيرة وضعتها في غرفة نوم رجل الأعمال واشترطت عليه أن لا يفتحها إلا بعد 24 ساعة، أي في نهاية اليوم الثاني.. واستلمت العصابة مبلغ 30 مليون من الأوقية وتركته على أن يلتقي بها بعد نجاح العملية .
وقبل دقائق من نهاية الوقت المحدد كان جميع أسرته وأشخاص من المقربين منه ينتظرون فتح الحقيبة المغلقة بقفل من الفلاذ لا يمكن فتحه إلا بالمفتاح الذي بحوزة رجل الأعمال المتلهف إلى فتحه.. وفجأة وقبل لحظة من نهاية الوقت دوى انفجار عنيف وانتشرت سحابة سوداء غطت فضاء الغرفة، وحدث هرج ومرج وهرع الجميع في سباق إلى خارج مذعورين.. بينما أصيب رجل الأعمال بحالة عصبية شلت رجلاه عن الحركة والهروب مع من هرب.
بعد وقت قصير عاد الجميع واحدا ..واحدا .. بعد أ انقشع الغبار الأسود الذي تسرب من باب الغرفة إلى الممرات وغرف المنزل الكبير.. ليجد الرجل صامتا واجما ينظر إلى أشلاء الحقيبة المتناثر حوله، والغرفة التي تحول لونها إلى سواد قاتم السواد، الذي سببه تفحم الأوراق داخل الحقيبة،من تفاعل مادة الحبر.
ليست هذه هي أول كارثة يتسبب فيها الاعتقاد بالخرافة والأساطير التي تولدت من ترسبات ماضي حمله الإنسان الموريتاني.. ولا يزال تأثيرها يسيطر عليه حتى الساعة. ولا هي أول قصة يروح فيها موريتاني ضحية استغلال شبكات أجنبية مختصة في أشكال التغرير والتحايل.. لكنها حدث من الأحداث التي يؤكد رسوخ اعتقادنا بالخرافات والشعوذة التي غالبا ما تكون سببا في تقهقر الشعوب وذوبانها.