البيع يفسر كل شيء
لا يميل الموريتانيون إلى العنف، ليس لأن ذلك من طبعهم، بل لأنهم لا يحبون الخسارة، يريدون تحقيق أقصى الأرباح بأقل الخسائر، أو في الحد الأدنى عدم تحمل أي كلفة أو مشقة.
هذا يفسر كل شيء في سلوك (أهل الخيام)، إنهم يبيعون ما يستطيعون، من العروض إلى الكلام وحتى أنفسهم إن اقتضى الأمر وفي حال نفاد البضاعة المادية، يعرضون أنفسهم، هكذا بكل بساطة، نفاقا وتزلفا أو ذلا ومهانة، أو حتى نزولا إلى بيع العرض ذاته. وقد حدث، وإن كان استثناء.
طبْعٌ غلاب وهوىً متّبع وسلوك طاغ، إنه سلطان العادة شديد الوقع على النفس، يغمرها ويخامرها، فلا تكاد تخلص منه إلا قليلا.
الخطاب البلاغي المتدهور لأهل الخيام في السياسة، تحكمه استعارة مجازية بليغة وهي البيع والشراء وليس الإبلاغ والإفهام و الإيضاح والبيان.
عقلية تجارية محض
السلوك التجاري هو الأنموذج الأكثر تفسيرا لفهم عقلية الموريتانيين ولاسيما موقفهم الغريب تجاه الدولة؛ التاجر الكبير الذي يلجئون إليه، يعرضون “خبرتهم” ثم شعاراتهم ثم نفاقهم وقد يأتي يوم في هذا المسار التنازلي يعرضون فيه أنفسهم..
ليس في الأمر دليل على مهانة أو خور، إنه ببساطة سلوك تجاري محض، رسخ منذ ألف سنة، عبر دروب الصحراء ومسالكها المهولة والمخيفة، وحين لم يجدوا عروضا ولا بضاعة، تحولوا إلى أدلاء للقوافل الرائحة والغادية بين المغرب والسودان، على مدار العام، صار الخرّيت الماهر منهم يقود القافلة عبر المسالك المهولة والطرق المخيفة وقد يقودها إلى الهلاك أو يبيعها لقطاع الطرق من الأقربين والأبعدين ، ويرجع جذلان إلى بيته قرير العين، كأنه لم يفعل شرا، لأنه لم يزد شيئا على أن باع قوما لقوم آخرين!
قديما كانوا يسافرون بعيدا، عن مرابعهم، وقد يطيلون السفر سنين عديدة، ولن يسألهم أحد عن رحلتهم وصلاتهم، المهم أن يأتوا ب”الحاجات”، أما مصدرها فليس مهما؛ سواء أكان من ريع “البركة” أو من طريق “الفهلوة والتحايل”. هو ذاته منطق الكسب السريع ومن أي سبيل كان.
ليست الدعارة أمرا لافتا في هذه البلاد، لا لأن أهلها ملائكة، بل لأن بيع الأجساد وهو تجارة قذرة، يذوب في الزحام كما يقال، حيث التجارة تعم كل مناحي الحياة والبيع يغمر كل شيء، فلا يلحظ أحد شيئا!
في بلاد يتكاثر فيها كالفطر وعلى شوارعها الرئيسة والفرعية، خط لا نهائي من صفوف الدكاكين والأسواق ومراكز البيع والشراء، هي بلاد ستصبح مدينة واحدة من الدكاكين الكبرى والصغرى، وسيصبح السكان جميعهم تجارا أو باعة، من الرجال والنساء والسوقة والخاصة، ويصبح كل شيء قابلا للبيع والشراء من الكلام إلى العروض وحتى الأعراض.
لن تسلم المساجد حيث ينبثق والحمد لله في كل مكان مسجد يرفع فيه ذكر الله مشعرا بهيبة الدين والمؤمنين، لكن المخيف أن حرم المساجد في خطر كلما اقتربت من الأسواق أو بنيت في قلبها، بل صارت أموال بعض المساجد وأرضها موضعا للبيع والسمسرة والتحايل!
وهكذا أرسلها الناس مثلا: العمارة التي هي من أعلى مسجد ومن تحت هي دكان، في ظاهرة بدأت تتكرر بعد أن كانت نارا على علم!
وذات يوم سُمح ببناء دكاكين للعطارين حول مسجد المغرب، فلم تلبث يسيرا حتى استحالت مخازن للخشب والإسمنت.. فضج الناس من هذا الحال كثيرا.
بيع الضمير والعرض والنفس
الجميع في همّ التجارة شرق، الفقيه والمدرس والضابط، الكل يبيعون ويشترون، ما يملكون وما لا يملكون، الفقهاء يبيعون الإفتاء ويختمون سرا وعلنا على ما يريده الحاكم وما لا يريده، والأئمة يتبارون في كيل المديح من على المنابر كما يتبارون في التسابق إلى علب الألبان المجففة والزيوت المعلبة، أما الضباط فقد كفتهم تجارة العسكر مؤونة الطوابير العلنية.. لأنهم في الحقيقة دولة مستقلة مقابل الكيان المدني المترهل.
وهكذا عرف الناس جوهر الخطاب الرسمي وهو بيع الولاء للحاكم ولوزيره الأول ثم لمن هم أدنى من أرباب الوزارات والهيئات.
شراء الذمم ليس منكرا في هذه البلاد لأنه من قبيل البيع والتجارة ومن يبيع ذمته أو ضميره لم يأت منكرا، بل هو أكثرهم تعقلا وحذقا وذكاء لأنه يبيع حقيقة ما يملك، بل قد ينجح في بيع ضميره مرات عديدة.
كل مواقف الأعيان، مع الأجنبي، حربا وسلما، كانت فيها حسابات الربح والخسارة، وهو أمر عادي في عرف القوم، ومغمز في ثقافتهم وسلوكهم لم يخلصوا منه إلا قليلا بل لعله من صفاتهم الملازمة اللصيقة بهم.
ولذلك كانوا يبيعون الكلام (التموليـﮊ) ثم صاروا يبيعون المعلومات (الوشاية) ثم أصبحوا بعد الاستقلال، يتبارون في بيع الأخبار والمديح لبني جلدتهم.
هروب التجار الأجانب
يفخر الموريتانيون بحذقهم حرفة التجارة، وأنهم استطاعوا السيطرة على السوق المحلي، وبقوا سادة الميدان. والحقيقة غير ذلك.
لقد هرب اللبنانيون والفرنسيون بأموالهم منذ أن أطلت برأسها الرأسمالية الوطنية الناشئة، التي لا تحكمها إلا قاعدة التحايل والكذب والتلاعب بالقانون، في ظل اشتراكية بدوية عجيبة، كانت تشجع التجار “الوطنيين” بكل السبل من أجل “دعم البرجوازية الوطنية” وفي الآن نفسه، كانت خطب الحزب الواحد تمجد الاقتصاد الاشتراكي وتراه النموذج الأفضل!، حال عجيب وموقف غريب، سيجد تفسيره الخارجي في التمسك بموقف عدم الانحياز، أي في الواقع البقاء خارج اللعبة الدولية، ومن دولة لا تملك شيئا في حقيقة الأمر لتنحاز به عن أي طرف كان، وكانت النتيجة عدم الإفادة لا من الشرق ولا من الغرب، فخرجت البلاد بين “اجْناح ومرفݣ“، كما يقال، وكاد الجار اللدود مالي في أيام موديبو كيتا، الجسور، أن يتحول إلى قوة إقليمية تزرع الشاي وتركب المذياع وتنتج الصوف وتحوز طائرات الميغ 17. أما أهل الخيام فقد ظلوا مع “عدم الانحياز” حتى انهار جدار برلين، وتفكك الحلف السوفياتي نفسه ودخلت الصين الشعبية السوق الليبرالية وأفادت منها، أما دولة أهل الخيام فقد ظلت كما كانت “إدرْݣان الحُمر” لا عمران ولا نماء، لأن الفرص التي وفرتها الحرب الباردة ذهبت معها وإلى الأبد.
كانت حرب الصحراء كارثة محققة، لأنها من المرات القليلة، التي قبل فيها أهل الخيام، استشارة من لا يعرف التجارة، فباع ما يملك مقابل ما لا يملك، وكاد يخسرهما معا.
وظل سوء الطالع يلازم البلاد رغم ذكاء تجارها، من أرباب السلطة وأصحاب السوق، فلم يفيدوا من الفرص التاريخية التي كانت ستمنح بلدهم نماء وقوة، في عهود كل شيء فيها رخيص أو قابل للبيع.
والأغرب أن هؤلاء التجار الرسميين والعاديين أضاعوا فرصا أكبر في التخلص من تركة المناجم حين كان السعر في الحضيض، وتركوا بيع استغلال ميناء انواكشوط الذي لن يعمر طويلا بسبب تآكل الرمال اللانهائي و هو حال مطارات كبرى (النعمة مثلا) التي تركت بلا فائدة، بينما كان ممكنا تماما بيع استغلالها لطيران دولي يتخذها مطارا للتوقف، فضاعت الفرص، تماما كما ضاعت فرصة تعمير الشاطئ بآلاف الشقق والمنازل في صفقات من قبيل الأراضي التي يجري اليوم علنا تقطيعها وبيعها كالخردة لتعمر جيوبا معروفة! وهو منطق يسري على كل المشاريع فيما يبدو.
التجارة مع المستعمر والدولة
التنافس بين أهل الخيام لدى الحكام، الفرنسيين والمحليين، ليس نفاقا ولا تزلفا، إنه تنافس في البيع والشراء، ويشتد فيه أوار التنافس بين الأقربين أو بين الأبعدين، من العصبيات المختلفة، لأن العصبية هي رأس مال رمزي يباع ويشترى ويرتفع ثمنه وقد يكسد فيباع ببخس الأثمان وقد يكون رخيصا فينبذ بالعراء.
وثائق تاريخية عثر عليها أخيرا دلت على أنه قد تدفعهم التجارة إلى “بيع” كريماتهم لملوك الجوار الجنوبي، تقية وجلبا للمنافع؟ وقد كان.
السياسي يبيع ضميره ثم يحصل بالمقابل على أموال معتبرة من سمسرة مع هؤلاء ثم لا يبرح المسجد صباحا ومساء، وقد يكرر الحج والعمرة إن اقتضى الأمر، يعتقد أن تبعات المال العام وشهادة الزور الشاملة التي يقتطع بها حق الأمة بأسرها تمحى بالصيام والصلاة .. إنه من قبيل “من قبيل عصى وصحت” والباقي يستره عفو الله. هكذا يسود هذا الاعتقاد الفاسد لدى جميع من يسرقون المال العام أو يشهدون زورا لترضية الحاكم أو يتلاعبون بالدماء والأعراض والحقوق، ثم لا يتوبون من قريب، ويحسبون أنها تبعات تمحوها الصلاة رياء والصدقات منا، …
قبائل البيع والشراء
تفاوت حظ القبائل الزاوية من الإرث التجاري جلي، بين من يبرعون في تشقيق الكلام وبين من يجيدون حرفة التجارة، فأسرع بهؤلاء نسبهم في التجارة والكسب فنالوا حظا وافرا من المال والسلطة والاجتماع وقعد بأولئك جدّهم فقنعوا بلوك الكلام، لا يجدون له سوقا إلا في أوقات التنافس في العرض الأكبر في يوم الزينة أو ما يشبهها من مناسبات القوم.
بيع الشعارات
السياسة في بلاد أهل الخيام، هي في الحقيقة ليست غير بيع الشعارات، متنوعة الألوان والحروف، تماما كالأقمشة والتحف، تجلب من كل البلدان، شرقها وغربها، في بلاد العربان ، وخارج دار الإسلام وفي بلاد الهند والصين وأيضا من باريس عاصمة النور والعطور والمناهج البراقة.
يلبس بعضهم الشعار السياسي تلبية لنداء عميق في أغوار نفسه التي تشعر بغربة عن أهل الخيام لا يطفئها إلا جلب شعار يقنعهم بأنه منهم، ويبالغ آخرون في جلب شعارات تطفئ لهيب الحقد الطبقي وتنفس عن المرارات العميقة تجاه هؤلاء أو أولئك، ويتعلق آخرون بالشعارات تلبية لنداء عاطفي غوغائي، يدفعهم إلى حمل شعارات لم تجد من يحملها غيرهم، بعد أن مضى صاحبها وصار رمة بالية من العربان، فيحملونها دهرهم جذلين مندفعين، لا يدرون فيما يقتتلون وماذا يحملون.
يجد أهل الخيام في حمل الشعارات وبيعها، دوائر مغلقة، يسهل الاحتكاك داخلها، ويستدعون أحقادهم الدفينة، فيصطرعون ويتنافسون، في العرض والتعارض، لكن في مقام الشعارات، هكذا يكون لبوس الإيديولوجيات ليس إلا تجارة للشعارات وتنافسا في جلبها وبيعها وصقلها، وحين تصبح أسمالا بالية، يرمونها بعيدا، ويبحثون عن أخرى جديدة.
أحد أرباب الشعارات وجد في شعار العرْق خروجا من أسر الرهانات القلقة في محيطه الضيق ومدخلا إلى “التبيْضُن” الأكثر صفاء وألقا، وتبعه بعضهم فلم يلقوا نجاحا لأنهم لم يحسنوا عرض بضاعتهم، وقنع قوم آخرون بجلب شعارات معلّبة من بلاد الشرق البعيد وماتوا في سبيلها ثم وجودوا أنفسهم في غربة عن الأهل والأرض، فماتوا حسرة وكمدا.
كلما نفقت سوق دخلوا سوقا أخرى وبرعوا ذات اليمن وذات الشمال في البيع والشراء، وحين تكسد المعروضات يفيئون إلى ظلال الدعة والسكون والكسل والفراغ فيشتمون بعضهم بعضا وقد يستحيل سوقا عظيما من السباب والشتائم، شعرا ونثرا.
سلوك التاجر يخشى على تجارته
قيل قديما رأس المال جبان وكذلك أهله، من غير بأس، بل هم قوم يجبنون عن مهاوي الفتن والثورات، التي لن تجلب كسبا ولا ربحا، بل خوفا وخسارة.
ليسو جبناء، أبدا بل إن فيهم جانبا كبيرا من الدموية الدفينة والوحشية العمياء، تظهر تلك النفوس البغيضة حين تسد عليهم الأبواب وغالبا ما لا تسد، لأنهم مؤمنون أنه عليهم أن ينفذوا منها ولو سدت من أقطارها “لأن المؤمن لا يسد عليه باب” كما في الأثر وهم يقنعون بالحكمة حين تصادف هوى في نفوسهم.
من ليس تاجرا ليس بيضانيا ، ومن لا يماكس ويواكس ويوالس ويداهن ويخالس، ليس تاجرا مطلقا. ومن لا يفهم منطق التجارة من ربح وخسارة ومكسب وفائدة، لن يفهم كيف يقبل أهل الخيام كل شيء ولا يبالون بشيء، لأنهم ببساطة، يفهمون أن كل شيء داخل في باب البيع والشراء، وهو باب واسع لا يسد ولا يحد ولا يخضع لضابط غير منطقه الخاص.
العرض والمعروضات والاستعراض هي جوهر التقديم الذاتي والحضور الاجتماعي بغض النظر عن محتوى المعروض وجدية العرض المهم أن يعرض الفرد شيئا، ولو كان وهما أو خيالا، وأن يكون أكثر صياحا وحدة في مجالس العشيرة، وأن تشرئب عنقه إلى كل أمر ذي بال وأن يدس أنفه في كل شيء، وأن يرفض كل شيء ويقبل كل شيء، وإلا لن يكون شيئا، ولن يلتفت أحد إلى بضاعته المزجاة أو الكثيرة. لأنه في سوق يعمرها الصخب والنصب، أربابها شديدو المكر واللؤم لا مكان بينهم لمن لا يبزهم في كذبهم ودجلهم.
وإذا كسدت تجارة الكلام عليه أن يجهد في عرض نفسه ولو من غير شيء، لأن مجرد العرض كلام صامت وهو أبلغ أحيانا من الكلام. يحدث ذلك مثلا في الزيارات الرسمية.
يستطيع أي من أهل الخيام أن يعرف ما في قرارة نفس نظيره فيخطف الفكرة منه في سرعة البرق ثم لا يلبث أن يستعيدها الأول إليه في ثوب آخر بعد أن صيرها سلعة رائجة ثمينة، فيخطفها من خرجت عنه ويبيعها بأثمان مضاعفة، وهكذا دواليك، هي ذات البضاعة، حتى بعد أن تخطفتها الأيدي ولاكتها الألسن، لم ينتقص منها شيء، لأن العبرة بالتاجر لا بما يبيع.
ذكاء أهل الخيام منحصر في التحوّر والتحول، في التأقلم مع كل جديد والانسجام مع كل قادم، لكنهم سرعان ما يملّون وهم شديدو الملل، إنهم قوم ملولون، لا يستقرون على حال، يتبعون الموضات كما كانوا يتبعون الغيث وينتجعون القطر، إنهم أبناء المزن، وهم اليوم أبناء الموضات، في السياسات والأذواق. من يتسكع معهم في هذا السباق هالك لا محالة.
ورثوا تلك العقلية التجارية من الفينيقيين ثم اختبروها في صحراءهم مع تجار العالم من كل الجهات، فانطبعت في نفوسهم ملكة راسخة لا يزعزعها شيء. وأنجح القبائل اليوم سعيا، أحذقهم للتجارة، وأقلهم حظا أضعفهم في حرفة البيع والشراء.
القبائل التجارية أميل إلى المغامرة وأعرف بالصفقات، وعلى قدر ذلك تكون مكاسبهم في السياسة والدين والحياة.
فشل أقوام خبروا الأحزاب والحركات والعمل السري، وكانوا أصحاب عقول راجحة وتجارب عريقة، لكنهم وقفوا عند حدود ذلك ولم يعلموا أصول البيع والشراء، فخاب أملهم وضل سعيهم.
دولتهم هي التاجر الكبير، يستلفون منه ويكيدونه ويرضى بذلك منهم أحيانا، وقد يغضب فيسلط عليهم ما لا يطيقون، ثم يرضى منهم باليسير فيعطون على قدر بضاعتهم كلاما أو عملا، وقد يكدون في جمع المطلوب فلا يفلحون في عرض طلبتهم فيكون ذلك مدّخلا وعوارا في تجارتهم و صفقتهم فيكسد ما جمعوا ثم ينقلب أمر الحاكم في فتنفق سلعتهم البائرة.
عقلية التاجر هي التي تحكم ولا ريب سلوك الحاكم والمحكوم في هذه البلاد، مع تفاوت بيّن وفرق واسع بين من يحذقون الحرفة ومن لا يعرفونها إلا قليلا، لكن منطق البيع والشراء والعرض والطلب والكسب والمنع والكساد والاحتكار معان حاكمة للجميع وبالغة الأثر في تفكيرهم وسلوكهم وحتى في أحلامهم وكثيرة هي أحلام أهل الصحراء حين يتوقون إلى العيش الخضل والماء النمير والأثواب المزركشة ثم يرجعون إلى واقع بئيس تغمره الرياح الهوجاء والأرواح التي تصفق الوجوه وتذرو الجذوع وتغمر كل شيء بغلاف سميك أصفر متجهم كئيب وكالح، فيستيقظون على واقعهم المر.
لم يحجم الموريتانيون عن الثورات ولم يكرهوا الثائرين، بل إنهم ببساطة قوم أرباب تجارة، يخشون كسادها، وأصحاب سوق يخافون ضياعها، فهم يتحامون الوقوع في مضلات الفتن وموارد الحروب.
إنهم قوم يقولون لك ما يسرّك، ويفعلون ما يريدون، وهي قاعدة راسخة في سلوك أهل الصحراء.
ذات يوم اعتقد رجل الإدارة الفرنسية المضيف ولد ابن المقداد أنه فهم هؤلاء البدو المتلونين لكنه كان مخطئا، وحتى بعد أن صار في مثواه الأخير، ربما شعر بمرارة دفنت معه ذات يوم، حين ظن أن بمكنته أن يخطف من أولئك ما يريد من أخبار وأنباء ثم علم بعد لأي أنهم كانوا يبيعونه ما يريد وما يشتهي، ويحصلون بالمقابل على ما ينقصهم من طرف ومتاع.
كانوا يبيعونه كلاما برعوا في تشقيقه ورصه ملفوظا أو مكتوبا، ثم يرجعون إلى أهلهم يسخرون ويمرحون.
عرف الفرنسيون وبسرعة لافتة، تدل على فطنة استعمارية مكينة، أنهم يحتلون “اللاشيئ”، أي (أدرݣأحْمر) ليس له قرار ولا حد، حيث يذوب الزمان في الصحراء وتختفي المعالم وينتهي المعنى في دورة عبثية بين الأفواه التي تلوك الكلام لوكا وتمتلئ بالرمال امتلاء، ثم لا تكف عن التغني بأمجاد غريبة وأساطير مختلقة وحكايات لا أصل لها. تماما كما كانوا يستندون إلى روايات مشرقية أسلافهم من قدمها إلى رواتها من المشارقة: بضاعتهم ردت إليهم في صحرائهم يبيعونها بعضهم بعضا.
كف المحتلون عن التفكير في المقام وقنعوا بالرحيل مع رعيتهم خوفا وطمعا، يمارونهم ويدارونهم ويحرسونهم ويكلفونهم ما لا يطيقون ثم رحلوا غير آسفين وتركوهم في صحرائهم يبتاعون الأوهام ويعرضونها للرائح والغادي ممن لم يعرف مكرهم ويختبر بواطنهم.
الانقلابات في البلاد، تغيير في أعلى الهرم، داخل الحلقة المغلقة من هيئة الأركان، ونادرا ما تمت انقلابات من خارج الهيئة، ولذلك فشل انقلابا 16 مارس و 8 يونيو، لأن ما يحدث في الانقلابات الناجحة هو نوع جديد من “الغدرة” التقليدية في الصراعات الأميرية الدورية قبل الاستعمار الذي أدخل التحولات الاجتماعية والسياسية في نوع من التجميد، ثم تبخر جليدها بعد “الاستقلال” واتخذت لبوسا جديدا مدنيا، قبل أن تعود سيرتها الأولى عنيفة عنفا رمزيا مع العسكر.
لو استقبل أهل الخيام من أمرهم ما استدبروا أيام “باعوا” غلق سفارة بني صهيون، لولجوا بلاد فلسطين المحتلة فرحين مسرورين، ولوجدوها مفتحة الأبواب ظنا من المحتلين أن القادمين من صحراء البيع والشراء قوم يسهل خداعهم، ثم لندم الصهاينة وكرهوا الاحتلال من أساسه وطفقوا يرحلون سراعا من حيث جاؤوا جزعا وكرها وندما من جلب هؤلاء الوحوش المتلونين الجامعين من أوصاف المكر والتلون والنفاق واللؤم والفوضى والفساد .. ما لم تجمعه أمة “الخزر” بعد تحولها الغريب إلى دين اليهود، في أحْجية تاريخية ما يزال المؤرخون في طلابها إلى اليوم!
ولله الأمر من قبل ومن بعد