ملأ مسامعي الدكتور محمد المختار ولد اباه ، قبل أن أقرأ عنه، وقبل أن يهدينى بخطه المميز كتبه، مميز لأنه بمجرد أن تكتحل به عيناك تستحضر أجلاء العلماء الكاتبين ... ونحن بالمناسبة في هذه البلاد لنا مدارس مختلفة فى الخط ... ثم افترَّ حظي عن ثنايا تفسد الدرر ، على رأي البيضاوي الجكنى، فكان تعيينه على رأس مجلس جائزة شنقيط، وكنت أحد أعضاء مجلس الجائزة، فما كان مني إلا أن طلبت من الدكتور أن يجعل من المدرسة العليا للتعليم مقرا للهيئة، فكان لي ما أردت، ولم تجُد قريحتي بنعت يناسب درجة عنفوان رغبتي للاستجابة الكريمة لهذا الطلب، فأوجفت قريحتي إلى عادتها وديدنها ... وكان ذلك اللقاء الذي جمعنا في قاعة الاجتماعات، التى تسورها قاعات الدرس والمخابر، وهو لقاء أحسبه من أهم محطات حياتي ... كان الرجل ينبوعا للأدب الجمِّ والخلق الرفيع، والعلم الغزير، الرجل مدرسة في هذا كله، وكثيرا ما نسمع أن كبار العلماء يحثون أبناءهم على تعلم أدب المشايخ قبل علمهم، كان هذا الإيحاء حاضرا في نفسي يستحثُّ همة فاترة ، ولكنها تتشوف لهمة قعساء، ماثلة أمام ناظريها ، وهل حادَ المشايخ يوما عن أن يكونوا أسوة حسنة لطلبتهم .
كان يشرفني فى المكتب ، قبل أن يلتئم اجتماع أعضاء الهيئة فى القاعة ، ثم يعود إلى المكتب بعد أن ينفض الاجتماع ، وقد تلقيت منه درسين ، أولاهما نظري ، والآخر تطبيقي ، عن عفّة أهل هذه البلاد وزهدهم في مباهج الحياة ، وعضِّهم بالنواجذ على القيم الرفيعة ، والسجايا والمناقب المحمودة ، وهو ما أكسبهم حُسْنَ الأحدوثة ، رافقهم ذلك فى حلهم وترحالهم ، أما الدرس النظري ففحواه أن شاعرا مفلقا، من بني حسن (محمذن ولد السالم) نزل ضيفا على امرأة ، (ولم تنزله منزلته) وواقع الحال أن للشعراء في هذه البلاد مكانة سامقة ومنزلة رفيعة ، وسافر من غده ، ولما علمت بإسمه ووسمه خرجت عن طورها ، وأرسلت من يقتفي أثره ، وتمكن من الإعادة به ، وبينما هي منهمكة في ( أن تقضي فائتة مطلقا ) جادت قريحته بهذه المعاني :
نزيلكِ فأمني أبدا أذاه * نزيل غير مرهوب المصال .
ضعيف لا يُخاف البطش منه * عفيف لا يسبُ على النَوال .
قِراهُ إذا ألمَ بأرض قوم * مفاكهة اللبيب من الرجال .
وقد خالطت هذه الأبيات بضاعتي المزجاة من عيون الشعر، وقد أعملتها نصاً وروحاً ، وقد صدق أبو تمام حين قال :
ولولا خصال سنَها الشعر ما درى* بغاة العلا من أين تؤتى المكارم .
وكان الدكتور مثالا لهذه العفة ، إذ الدرس التطبيقي الذى تلقيت منه يكمن في أنه كان يسند إلي مهمة انتقاء الخبراء لِفَليِ أعمال المترشحين (الأدبية) ، وقد بذلت جهد المستطاع فى انتقاء اللائحة على ضوء معايير المهنية والكفاءة والنزاهة ، وقد عرضت عليه اللائحة ، وقبل الأسماء كلها، إلا الدكتورة خديجة بنت الحسن ، وقد أفرغت كل الجهد فى سبيل إقناعه بكفاءتها ومهنيتها ونزاهتها ، ولم يقبلها إلا فى المرة الثانية ، واستبدَ بي الفضول لمعرفة السرِ الكامن وراء هذا الرفض فسرَ لي أحدهم بأن والدتها شقيقة حرم الدكتور رحمة الله عليها ، وأن أهل الحسن (أسرتها ) هم أهله ... وقديما قيل (إذا عرف السبب ، بطل العجب) . ولم يقتصر اللقاء بيننا على اجتماعاتنا ، فكان يدعوني لبيته العامر فى نواكشوط وفى الرباط وقد تركت دعوته الأخيرة فى الرباط فى نفسي أثرا كبيرا، ولا أظنها إلا كذلك ، سيكون لها أثرها فى نفسك – عزيزي القارئ – وستكون براعة الاستهلال هنا موكولة إلى المتنبى ، كما هي عادتى ودأبى معه :
وقد وجدت مكان القول ذا سعة * فإن وجدت لسانا قائلا فقلِ .
لقد حضرت مرة مؤتمر علميا للدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط ( 5+5) وكان حضوري رسميا ، وصادف ختام المؤتمر أن كنت مرهقا ، وكوّمت الوثائق التي انبثقت عن المؤتمر فى الغرفة ، على أن أعود لترتيبها فيما بعد ، ونزلت إلى باحة الفندق (هيلتون) وهو آية معمارية دُسّت فى غابة من الصنوبر ، لا تسمع منه إلا التنافس بين أصناف بُغاث الطير ، وهي أكثرها فراخا :
بغاث الطير أكثرها فراخا *وأم الصقر مقلاة نزور .
أما البصر فإذا أردت النجاة بنفسك، فعليك أن تغضه، ناولني النادل فنجانا من خلاصة البن الممزوجة بقليل من الحليب، وكنت أتأمل التضاريس التى علت الرغوة النافرة من الفنجان (الحزون والنجاد ...) قبل قراءتها، وأحتسي منه على مهل، على رأي الشاعر محمود درويش، فقد كنت معجبا به منذ كلفتني جامعة نواكشوط بمرافقته لما زارها فى منتصف تسعينات القرن الماضي، فقد رأى ضيفنا أن :
القهوة لا تشرب على عجل، القهوة أخت الوقت
تحتسى على مهل، القهوة صوت المذاق، صوت
الرائحة ، القهوة تأمل وتغلل في النفس وفى الذكريات .
وهي تتقاطع مع الشاي فى الضوابط والشروط المطلوبة فيه ، والتي أقلها عين الجيمات الذي يتمنى محتسيه ليلا (كواكبه شُدَت بأمراس ) على رأي الشاعر .
وقد آويت إلى ركن من هذه التحفة المعماريه يمكن صاحبه من رصد الأشخاص جيئة ورواحا ، إمتد بصري بعد ( الحسوة البيسانيه ) الأولى إلى البوابه فإذا بالأستاذ الدكتور محمد المختار ولد اباه ، والدكتور عبد الودود ولد عبد الله (ددود) ، وجلسا معي ولك عزيزي القارئ أن تحسن الظن بمدى اعتزازي بهذه الجلسة، وبما دار فى المجلس ، وقد استهلها الدكتور بأنه علم بمجيئي ، ولم يَكِلْنى إلى الاتصال بالهاتف ، فجاء ليسلم ، وأنه يدعوني غدا إلى منزلة للغداء . وما زالت هذه الكلمات نافرة فى مقدمة ما أفتخر به في حياتي ، وما زالت غائرة فى ذخر ميرتي المعنوية (حين يجتمع الهم ، ويكون الركب أشتاتاً) .
وبت ليلتي على الطواء ، ولا أخفي عليك – عزيزي القارئ- أن ليلي كان طويلاً، وأحيلك إلى معاناة الشعراء من طول الليل . وكان الحضور في المنزل العامر هم :
المهندس عبد الله ولد اباه والدكتور أحمد سعيد ولد اباه ، والدكتور السيد ولداباه والدكتور عبد الودود ولد عبد الله (ددود) ، ومن عادتي أن أستنفر كل ما أملك ، على تواضعه ، فى مثل هذه المناسبات ، ودشنت الحديث بسؤال أستاذنا الدكتور محمد المختار ، عن ذكر الشيخ محمد الأمين (آبه ولد اخطور ) رحمة الله عليه له ، فى رحلته (رحلة الحج إلى بيت الله الحرام ) على النحو التالي : (ثم في مدة إقامتنا فى النعمة قدم إلينا أديب علوي إسمه محمد المختار بن محمد فال بن بابه العلوي ، وأكثر من سؤالنا عن أيام العرب وأشعارها وملح الأدباء ، ونوادرهم ... ) ، فأكد اللقاء وأشاد بغزارة علم الشيخ محمد الأمين ، وأثنى على قبيلته (تجكانت )، وعلى مستوى حضورها العلمي فى المملكة العربيه السعوديه ، ووقف عند مشهد علمي مع الشيخ محمد الأمين رحمه الله ، كان له ما بعده ، فقال :
قام الملك محمد الخامس برحلة إلى المملكة العربية السعوديه فى يناير 1960 م ، وكنت أرافقه ، وبعد انتهاء الزيارة للرياض ، أراد الملك محمد الخامس أن يعتمر ، وأن يزور المدينة المنورة ، وأبدى رغبته فى الاستماع إلى محاضرة فى الحرم النبوي من أحد العلماء، وكان ردي سريعا بأني أعرف أحد العلماء الأفذاذ ، ويستطيع القيام بهذه المهمة ، وهو الآن فى الرياض ، وبإمكانه مرافقتهم للمدينة المنورة ، وافق الملك محمد الخامس ، فاتصلت بالشيخ آبه ، فوافق وأستأذن السلطات السعودية، ورافق الشيخ آبه الوفد إلى المدينة المنورة ، ووقع اختياره على تفسير الآية الكريمة ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) . كان الشيخ آبه فى موقع لا يمكّن من وصول الصوت ،إلى الوفد كاملا ، وكان يتقطع ، فلم تكن تقنيات الصوت على ما هي عليه اليوم ، ولم يتمكن كافة أعضاء الوفد من الاستماع إلى المحاضرة كاملة ، ولكن الملك محمد الخامس ، بحكم موقعه القريب من الشيخ تمكن من الاستماع لها، وحين أقبل أعضاء الوفد على الملك محمد الخامس الفوه يقول بصوت خافت : لا إله إلا الله ، انتهت المهمة ... انتهت المهمة ، انتهت السنة، وزادت شهرا وتوفي الملك محمد الخامس ، رحمة الله عليه .وقد كتب لي الدكتور احمد سعيد ولد اباه ، بعد لقائنا المبارك هذا ، أن الدرس طبعه الدكتور عطيه محمد سالم ، تلميذ الشيخ آبه ، رحمة الله على الجميع . ثم تابع الدكتور محمد المختار ولد اباه وقال : لقد تعرفت على رجل من تجكانت فى النعمة فى هذه الفترة التي تتحدث عنها ، كان صديقا لي ، لا يفارقني ولا أفارقه ، كان أديبا أريبا ، حسن الطلعة ، جميل الهندام ، وقد حل لي مشكلة غداة مغادرتي للنعمه ، أواسط العام الدراسي ، فقد طلب مني أحد شيوخ القبائل أن أعطية مبلغا يسدَد منه (العشر) وبالمناسبة ، فأنا سمي هذا الشيخ ، إذ طلب خالي محمد ولد انداه من والدته (جدتي من أمي)، رحمة الله على الجميع، أن تطلق علي اسم هذا الرجل، وقد أقنعها بأنه رجل صالح، وأن سيكون لي بعض الحظ من هذا الاسم، وقد أشعر الدكتور هذا الشيخ بقرار تحويله فأعطاه غنما عوض المبلغ ، وحين قص الدكتور محمد المختار على الجكني قصته ، عوض له المبلغ كاملا غير منقوص عن الغنم ، فحل له المشكلة حلا جذريا، فشق عليه أن لا يعرف اسم هذا الرجل ووسمه ، وطلب مني إعمال النظر فى التعرف على الرجل .سألته هل هو من منطقة آفطوط أم من الرقيبه؟ قال من منطقة الرقيبه قلت له من كرو ، انتاكات ،اتويقيدة ، كيفه ، كامور ، بلاَر ، اشكيك ، جوك ، انواملين ، لمبيديع ؟ قال كل هذه المناطق ، يذكرها فى حديثه ... قلت له عبد الدائم ولد انداه ؟ قال لي نعم ، نعم ، نعم ، عبد الدائم . قلت له هذا شقيق والدتي رحم الله الجميع وهو وأبي من أبوين شقيقين وشيخ مجموعتي التي أنتمي إليها ، ولا أخفي عليك – عزيزي القارئ- أني كنت أكاد أخرج من مسامّ جلدي ، بفعل القشعريرة ، ليس لأني نجحت فى الأمتحان ولكن لأن (هذا خالي ...) ، وابن عم أبي ... وكان الدكتور السيد ولد اباه يقول لي فى قاعة الشرف ، فى مطار أم التونسي ، يوم 11 سبتمبر 2017م إنه كان يتحدث فى الأسبوع الماضي عن هذا المجلس ، فراق لي أن أضعه لك – عزيزي القارئ- فى سياقه ، والعذر مأمول عندك ، لقصور الوصف عن المعاينة ، غير أن لقاء الرجال لقاح للعقول .
مسقط بتاريخ 2017/9/28م.