السوق السوداء"التبتابه".. واقع فرض نفسه على المواطن

جمعة, 10/27/2017 - 15:35

 

في الثمانينات عادت الذاكرة الشعبية إلى عهد التجارة بالمبادلة والمقايضة التي عرفتها الصحراء خاصة في الفترة الوسيطة  حيث كانت المبادلة والمقايضة  منتشرة خاصة بين التجار الذين كانوا يمرون من المدن القديمة(ولاته، وشنقيط..) قادمين من السودان أو قادمين من المغرب.. في الفترة التي  كان  العبيد والذهب والملح والأقمشة والزروع  التجارة الرائجة بين السكان.

ظهرت في ثمانينات القرن الماضي بالعاصمة نواكشوط أسواق سوداء بسبب هجرة سكان الريف إلى المدينة وتوقف الأمطار وجفاف الصحراء من المراعي الخصبة وموت المواشي التي كانت هي مصدر عيش جل سكان الصحراء الموريتانية إذا لم نقل كلهم.. فبدأت المدن تعرف كثافة واتساعا، وخاصة مدينة العاصمة نواكشوط التي اضطر السكان فيها إلى مزاولة مهن مختلفة لكسب القوت والاندماج في الحياة الجديدة التي فرضت عليهم الكثير من  المسلكيات التي لم يعرفها المواطن في حياتهم البدوية المفتوحة .

فاضطر الوافد الجديد إلى المدينة التي عجزت الإدارة فيها عن توفير الحد الأدنى من الأجر له إلى  أن يبيع  ملابسه ومغتنيات بيته ليصرف على نفسه و من يعيل في ظل مشكل عجز الدولة الوليدة عن احتواء كارثة الجفاف التي حلت بالبلدة ولتي تزامنت مع توتر العلاقات مع دول الجيران بسبب حرب الصحراء الطاحنة وانتشار البطالة.

فاضطر المواطن بسبب الحاجة الماسة إلى العمل أن يبيع ممتلكاته الخاصة ، فكانت تلك بداية لمنعرج جديد لعمل في سوق لم يكن معروفا أطلق عليه سوق"التبتابه".

 وكان أول ما ظهر هذا السوق في الزاوية الجنوبية الغربية من سوق السبخة الكبير، بين أركان ساحة عمومية صغيرة، حيث ظهر الباعة يحملون "دراريع" وأقمصة، وسرابيل، وأشياء مختلفة يسوقونها بأسعار حسب ما تفاهم عليه البائع والزبون.. ورغم أنها مستعملة في الغالب إلا أنها تفي بحاجة الزبون وسيحصل عليها بسعر في متناوله، من العملية يحصل البائع على مصروف.

وكشف المواطن من خلال مزاولة عمل "التبتيب" أنه يعمل ويكسب وإن كان حجم النتيجة لا يفي بالغرض، إلا أنه وجد حافزا وأملا يتعلق به يخرجه من زاوية لاستسلام لأوهام البطالة والفقر.. ومع مرور الزمن توسع السوق وكثر المرتادين له، بين الذين يحملون أغراضا لبيعها، و زبناء  يبحثون عن حاجات ليشتروها.

وكان لدى المجتمع في البداية الأولى من ظهور السوق  نظرة يشوبها الكثير من الحيرة والارتباك في طبيعة شراء المغتنيات التي تعرض في السوق. فالبعض  يشتبه في حلية مصادرها، حيث يعتبر بسبب تدني الأسعار التي تباع بها بعض المغتنيات الجيدة ناتج على أنها أما مسروقة أو مغصوبة بسبب حاجة صاحبها مما اضطره لبيعها.

لكن ذلك الارتباك وتلك الهواجس ذابت مع  اتساع السوق الذي شكل فضاء المزدحم بالزوار قلقا للسلطات، مما اضطرها إلى  أن تخصص مكانا خاصا له، فخصصت له ساحة المدرسة رقم أربعة في السبخة المحاذية للمركز الصحي بالسبخة من الشمال.

التجارة من السليم إلى المغشوش والمسروق..

ومع التسعينيات عرف السوق مرحلة تحول من سوق  سليم يتعامل التجار فيه ببضاعة الكل فيها سليم، لا يشوبها التعامل بالغش والسرقة.. لكن التحولات الكبيرة التي تسببت فيها البطالة وغياب سياسة تنموية اجتماعية تنتنشل المواطن  من الفقر وانتشار الجريمة ، جاءت باللصوص فصار السوق حاضنة لبيع المسروقات المبيضة عبر وسطاء من باعة السوق، حيث يتم عبر هؤلاء الوسطاء دخول التجارة من اللصوص وتغيير صورتها حتى لا يتعرف عليها صاحبها الذي كثيرا ما يشتريها من السوق.. كما دخل السوق المنحرفين الذين امتهنوا العمل في السوق، ومارسوا تحت عملهم بيع ونشر الممنوعات من مخدرات ومسكرات..

كان للأجانب من الدول الإفريقية المجاورة مثل سنغال ومالي وغيرهما دور في تغيير مسلكيات السوق من المعاملات السليمة إلى المعاملات المشبوهة من غش وسرقة.وذلك بفعل وجودهم في السوق إلى جانب المواطن.

ومع انتشار شهرة السوق الذي صر يجمع إلى جانب تجار الأثاث المستعمل و الملابس باعة المخدرات ومهربيها، ولصوص المنازل والنشالة، ازداد اهتمام المواطن به كمصدر لاقتناء حوائجه وبيع أثاثه عند الحاجة، حتى أن  في السوق من التجار من ارتبط بعلاقات وثيقة بأسر ثرية يشتري منها  ويبيع لها. كما غذى السوق السوداء ما يبيعه أبناء هذه الأسر الغنية من مقتنيات بثمن زهيد عند الحاجة فيدفعون ملابسهم وأغراضهم الثمنية للبيع بأسعار زهيدة.

السوق يفرض نفسه على الزبون..

اختلاف وضعية السوق عن غيره من الأسواق، جعلت المواطن يتعلق به أكثر بحيث يمكنه- الزبون- أن يبيع ما بحوزته فيقبض مالا..أو يقايض بأثاثه ويحصل على أثاث أو ملابس أو أي غرض يبحث عنه في السوق بزيادة خفيفة، مع جودة البضاعة التي سيحصل عليها.. وقد يحصل العكس، فقد يتصادف الزبون مع الغشاشة واللصوص والمحتالين ويبيعون له بضاعة مغشوشة وهو ما يعر بالسوق "ب(اتملاح).. لكن يظل السوق المعروف ب"التبتابه" حالة تختلف عن الأسواق يفرض نفسه على الزبون بما يقدمه من بضاعة وسهولة في التعامل، عكس الأسواق الأخرى التي تباع فيها البضاعة المستوردة.