القبيلة وعلاقتها بالدولة٠٠٠ الدكتور/ باب محمد الشيخ سيديا

سبت, 03/24/2018 - 16:35

 لم تعرف المجتمعات الصحراوية بمفهومها الواسع تقاليد سلطوية راسخة في العصور السالفة، باستثناء بعض الحركات التى كانت تعبر عن هم معرفي وذاتي حول واقع معين، مما جعلها تخضع لكثير من الدراسات والافتراضات الراجعة إلى نظريات ومشارب متعددة ومدارس كذلك تحدد طبائع هذه المجتمعات وميكانزماتها المختلفة عن مثيلاتها التى عاشت فى أكناف السلطة والمدينة..فوفق المحددين تتمايز الطبائع والنفسيات والعقليات والأدوار.
لذا فإن الوصف المبدئي يحيل إلى تقاليد بدائية فى الأنماط والسلوك رغم  كل المرجعيات الدالة على صفاء أرواح ساكنتها  ونقاوتهم  وطهارتهم من كل دنس فى ظل المتغيرات والولوع بالماديات، مما نتج عنه انمحاء الانسان  فى مجموعة من القيم والمثالب مخالفة لما كان سائدا فى السابق، وبين نظرة "مدنية" أخرى  للحياة والإنسان ككائن حداثي  نتيجة للتطورات المتسارعة التى عرفتها القارة الأوربية، والتي أفرزت مخيالا ونظرا يختلف فى التفكير وتفسير الحوادث والمصائر.
من هذا المنطلق تداعت النظريات حول المجتمعات المناقضة فى التفكير مما أنتج ثقافة استيراد المنتج الذي  تقاس به أمور الرعية، بل تعدت الأمور ذلك إلى التحرك وفق فرضيات  تؤسس لأفكار الاستغراب، ولما لا نظرية الغزو للبلاد بعدما سلمها مستعمروها إلى "النخبة الحداثية" التى ستناط بها مهمة الحكم  فأصبح النموذج المقدم يناقض الذوات والمصالح القبلية ليوضع الشكل الجديد "غصبا" على الأقل فى منبته وأصوله المناقضة للتصورات الفلسفية لتلك المجتمعات مادام المراد والمبتغى ينبني على ظواهر الاجتماع الأهلي والتفاهمات القبلية فالسلطة في النهاية نتاج توافقات محلية وإيمانية بمنطق التراضي والتوافق.
لقد مثل الانتماء للقبيلة امتدادا لأواصر ذوي القربى بالمفهوم الشرعي  وملجآ صلبا يرجع إليه حين النوازل والمطبات أو القلاقل الاجتماعية نظرا لحكمة الشيخ وتنزهه عن كل عمل يمكن أن يمس من أمته فى فضائها الضيق الشامل والجامع فى الآن نفسه لبني جلدته انطلاقا من الأسرة فى مفهومها الجينالوجي إلى الخيمة فى فضائها الأعم بما تعطى من رمزية وقدسية لأصحابها، وهو ما عبر عنه الباحث "غيلنر" عندما أشار إلى مجموعة من الروابط تجمع مختلف هذه الكيانات و تقودها إلى فضاء أعم وأشمل يمنع من التفرقة والتشرذم، ويقلص من التهميش والغبن.
لهذا كانت القبيلة بما تملك من مؤهلات الوعاء الرمزي لمجتمعات الشمال الإفريقي وبصفة أخص للمجال المتحدث عنه بوصفها الحاضنة له، و المدعومة شرعا وعرفا، والمؤسس لها مفاهيميا فى المتخيل السلطوي، من هذا التصور يمكن الاعتماد على النظرية التى اعتمدها الديبلوماسي الإفريقي  "إليوت سكيز" عندما حلل الظاهرة القبلية  انطلاقا من نظرية المؤامرة فى انتاجها للمفهوم بوصفه استعادة للنموذج البدائي، ونوع من إلصاق القدحية بتاريخ مجتمعات لها تقاليد تختلف عن المعطى الغربي فى تعاطيه وتماهيه حول الحرية والعدالة والقيم الديمقراطية الحديثة.
إلا أن  مقصدنا ليس إعطاء الصورة الأخرى المغيبة، ولا محاججة فى الذوات القصد منها  إظهار نموذج معين  وسلامته من كل الشوائب، بل هو إشارات فقط إلى مدى تعالقنا مع النظم الحديثة المستحدثة والمتبعة كرها أو طوعا نظرا للمتغير والطارئ فى المجال المتحدث عنه. تعززه ثلاث اسئلة مركزية حول الانتقال من مجتمعات لها تقاليد معينة إلى متغيرات جديدة أحدثت ارتباكا وخلخلة فى النظم الاجتماعية. وكيف تقبل الناس هذه المفاهيم بعدما ما يربو على نصف قرن من ممارستها كعملية فى الحكم واقتياد الرعية؟. وهل بقيت المفاهيم المعمول بها تقليديا تستعاد فى كل اللحظات الحالكة والقلاقل التى تمر بها تلك المجتمعات؟.
كان الباحث باروني ذكيا فى طرحه الحصيف عندما تحدث عن أزمة سيكولوجية يعيشها البدو وفق الانتقال من تقاليد بدوية إلى تقاليد حضرية من ناحية والمتخيلات الأسطورية حول الماضي التاريخي الملهم الذى ينبني عليه العقل السياسي  فى أغلبه من ناحية أخرى، فلم يكن المعطى التحولاتي لديه من المرتكزات ما يمكن أن نجزم بأنه كان تحركا عفويا مدعوما بنظرية التغيير السلسة بدون إثارة كبريات الأسئلة فى تاريخ المجتمع، بقدر ما كان نتاجا للظرفية المستعادة نماذجها كثيرا فى المجال الموريتاني فى ممارسة الحكم القبلي وممارسة العمل السياسي وفق أنماط استثنائية فى مجملها تخضع لسؤال اللحظة والتكيف معه.
ورغم أن الدولة الحديثة ـ كغيرها من النماذج المستحدثة فى المجال المجاور ـ أظهرت قدرا كبيرا من الجدية فى الطرح الذي يتجاوز نظريا المسألة القبلية والنسب فى مفهومه العصبي، وطرح بدائل تتمثل فى الاقتصاد الإنتاجي وممارسة العمل السياسي فى قوالب أخرى تعتمد على مقاربات جديدة فى الحكم تتمثل فى انتخاب الرئيس أو تقديمه عبر العمل الحزبي والنضالي،  فإنها شكلت أو كانت  كجسم غريب تثير اشكاليات عميقة حول مفهوم الهوية والانسجام الاجتماعي مع النظم الجديدة، مما ولد تناقضا فى الشخصية التى تدار بها الأحوال والمنطق الذي على أساس منه يُتفاعل مع قضايا الأمة المصيرية.
والحق أنه رغم الجهود التى بذلت فى سبيل الحد من النفوذ القبلي نظرا للترسانة القانونية المحاربة لكل تصور يعطى النفوذ أو  المناصب باسمها، فإنه حكم ظل من المتمنى والمؤمل ولم تكن ثمة أرضية يمكن أن تدعم هذا التوجه أو تشكل اندثارا للمعطى القيمي للقبلية بما يتيح من توظيف ايديولوجي حين الأزمات أو الإحساس بالأخطار، وما يخول من تقاسمات وفق المنازل والرتب الاجتماعية