مَن الذي يستطيع اليوم أن يقول ـ بناء على معطيات تاريخية ودلائل علمية قاطعة ـ إن قبيلة الفلانيين أو بني فلان، أو سكان المنطقة كذا، أصلهم "كذا"؛ أي غير الأصل الشريف/ النبيل الذي اختاروه وقرروه لأنفسهم؟!
ومن يستطيع أن يزعم أن جد الفلانيين لم يأت على بساط الكرامة، ناشرا العلم والفضل، فعمر الأرض وأدر السماء...؟!
وما ذا سينهار من الأحجار والرمال، إذا فككت هذه المنظومات الأنثروبولوجية "الهشة" فاختلط الحابل بالنابل وانطلقت الدبابير من أكوارها؟!
لكن من يجرؤ: أشخاص لا يبحثون عن المشاكل، أم حكومة لا تستطيع تطبيق قانون وضعته لسير العربات وسلامة ركابها...؟!
*
كان العلامة النابغة المختار بن حامدن ـ رحمه الله ـ عالما بنقد التاريخ، واعيا لمساوئ ومخاطر تزويره؛ ولكنه كان حكيما وذكيا حين وجد نفسه مؤرخا بين خطتي خسف: إما أن يجرد قلمه ويمحص التاريخ ويغربل رمال التحريف والتحوير والتزوير والخرافات والأساطير التي تغمره، فلا يجد من يعينه ولا من يفهمه، وقد يفقد حياته قبل أن "يُكَنِّش" خمس ورقات!
وإما أن يبدأ في "جمع السيل" فيدون خاما هائلا ويحفظ بحارا من المعلومات، لن يعدم الغواص الماهر العثور فيها على لؤلؤة أو محارة نافعة، بالإضافة إلى ما سيصطاد من المعلومات والمعارف "الحيادية" (التراثية) التي لا تحميها مردة العصبية!
فآثر ـ رحمه الله ـ الخيار الأخير الأسلم والأسهل، رغم الضخامة؛ فوكل لكل قوم أمر تاريخهم وأنسابهم وأمجادهم. فكان التعاون معه رائعا والجمع هائلا... والحقائق نادرة!
*
وباستثناء العلامة أحمد الأمين (الوسيط)ـ مع كثير، كثير من التحفظ ـ لم يستطع أحد حتى الآن من المجدين والباحثين المتحمسين، ولا حتى المغامرين... أن يكتب حرفا "متحررا" عن تاريخ هذ ا البلد الوسيط والحديث المتدارك. أما تاريخه القديم والغابر، فلا فائدة لتحرره و"أمنه" ما دام لا يوجد له أي خبر ولا أثر!!
وغاية ما يصل إليه الباحثون الجادون هو الخضوع لنواميس المجتمع "البظاني"، والسكوت على ما يكتنفها من المحظورات والمحذورات، والانخراط في مدونة الاجمال والزَّيد والحذف والتدليس والمجاملة والمشاغرة... التي تعمق المشكل وتقويه بدل نقب جداره المتنامي بسبب التعفن السياسي المتمثل في فشل مشروع الدولة الجامعة المانعة، وسيادة القبلية والعصبية النافعة الشافعة...!
وانطلاقا من تلك العفونة ظهرت دعوات ومبادرات، ذات نفع ما، تدعو ـ بكل بساطة ـ إلى أعادة كتابة التاريخ الموريتاني، وتعيين الجيد منه والرديء بناء على نفس الظرفية السياسية الموبوءة!
ولأن "اللسان ما يغلبو شي" كما يقال، فقد ظهر للسلطة العمومية، وهي أبعد شيء من فهم الجوانب العلمية للموضوع، أنها بإمكانها أن تضيف إلى "إنجازاتها العملاقة" كتابة التاريخ الوطني الصحيح؛ وهيهات هيهات!
وينقسم من يتبنون الفكرة ويؤيدونها إلى ثلاث طوائف، لكل منها ما تنوي:
1- الدولة (السلطة السياسية) وهذه زُين لها الموضوع، وترى أنه يمكن التحايل لتحقيق إنجاز فيه، إما عمليا (بإصدارٍ فضفاض على الطريقة الحامدية، مطعم ببعض قصص "جمعية تخليد أبطال المقاومة"، مع التركيز على ما قبل التاريخ، من قبيل "ازويرات قبل خمسة ملايين سنة" (معرض نظمته سنيم لأركولوجيين أوروبيين في ازويرات سنة 1980).
2- تربويون ووطنيون، يرون أن "الأسطورة" البطولية ضرورية لكل دولة وكل شعب، تكون رمزا لجمعه ولم شمله وشحذ عاطفته لخدمة الدولة والمجتمع... حتى لو لم يوجد لها أساس، يجب أن تختلق اختلاقا!
3- مؤرخون وكتاب "موظفون" أو تحت الطلب؛ يكتبون كما يملي الآمر، بشرط ضمان الانتفاع، أو على الأقل أمن الضرر!
فاي شيء ستكون كتابة الحكومة للتاريخ الموريتاني... والمهم الأهم: أي فائدة تستطيع تحقيقها في ظل ما قدمنا، وأي ضرر قد يأتي به كتابها وهو خاضع حتما للإكراهات السياسية والإغراءات الشعبوية؟!
**
أخيرا بقيت ملاحظتي أنا كمواطن يهمني المضارع قبل الماضي، فأقول:
الحكومات ليس من أولويات شأنها كتابة التاريخ ولا حتى كتابة المصاحف، ولا تطريز المعلقات...
دور الحكومات الأساسي الضروري هو تأمين وإعاشة وإسعاد مواطنيها بالقسط، وإصلاح حاضرهم ومستقبلهم، وخلق الظروف الملائمة لإطلاق إبداعهم، في ظل دولة عادلة قادرة على تأمين خوفهم من الحقائق، وعدم ثنيهم عن قول وكتابة واكتشاف كل وقائع التاريخ والانتفاع بها.
محفوظ بن أحمد