كم الجنرال افرين توريخوس هاريرا دولة البنما بعد أن قاد، سنة 1968، انقلابا ضد الرئيس آرنيلفو آرياس مدريد.
كان الجنرال توريخوس وراء مفاوضات 1977 التي منحت بنما السيادة الكاملة على المنطقة المحيطة بـ"قناة بنما" وأدت بنودُ معاهدتها إلى استكمال تأميم القناة سنة 1999.
ورغم أنه كان مجرد طاغية كجميع الطغاة، قام توريخوس بإصلاحات عقارية جذرية، ووضع قانونا للشغل، ورخص للنقابات العمالية، وأمّم قاعدة اريو هاتو العسكرية، ودشن بناء الكثير من المدارس، وخلق فرص عمل غير مسبوقة، وأعاد توزيع الأراضي الزراعية، ما جعل قاعدته الشعبية تتنامى صاروخيا. إلا أنه كان خائفا من محيطه العسكري، فبحث في لوائح العسكر عن شخص يمكنه أن "يصنعه" ويجعل منه مخلصا أعمى.. عثر الرئيس توريخوس على اسم مغمور، ترعرع صاحبُه في أفقر أحياء بنما (العاصمة). إنه الملازم مانييل آنتونيو نورييغا.
أعطى توريخوس كل الصلاحيات لنورييغا، فعينه على رأس حرسه الخاص، ثم رقاه إلى رُتَب ضابط صف، فنقيب، فرائد، فمقدم، ثم عقيد. وأخيرا كلفه بإحدى أهم مديريات الاستخبارات بحكم إخلاصه له وبحكم تلقيه تكوينا خاصا، بجمهورية البيرو، في مجال العمل المخابراتي.
أصبح نورييغا، بعد فترة وجيزة، المالك لكل مفاتيح البلاد، وصاحب اليد الطولى في المؤسسة العسكرية، والمهيمن الوحيد عبر شبكة علاقات متشعبة داخل الأوساط الحكومية ورجال الأعمال.
بنى قائدُ الحرس الرئاسي، المقدم نورييغا، امبراطورية مالية ضخمة أشبعها بعلاقاته المشبوهة مع عصابات تهريب المخدرات بين كولومبيا وبنما والولايات المتحدة. وهكذا أصبح، تحت حكم صانعه الرئيس توريخوس، المحرك الفعلي لدفة الحكم. و"فجأة" توفي الرئيس توريخوس يوم 31 يوليو سنة 1981 إثر تحطم طائرته في حادث غامض.
اختار نورييغا العقيد فلورانسيو افلوريس خلفا للراحل توريخوس، قبل أن ينقلب عليه ويختار، بدلا منه، العقيد باراديس خلفا له ليحكم من مارس 1982 إلى أغشت 1983 حين أجبره نورييغا على التقاعد بعد أن لم يعد من المنطقي بالنسبة له أن يظل، طول حياته، مجرد صانع للرؤساء.
تباهى الرئيس نورييغا بالشقق الفاخرة في باريس، وتظاهر أمام الملأ بالفخر بضيعاته وحدائقه على مشارف بنما العاصمة، وبقصوره المنيفة في الأرياف، وبحساباته "المنفوخة" في سويسرا. وبكلمة واحدة، كان نورييغا وقحا لدرجة جعلته أكبر الممقوتين لدى شعبه.
ما بين 1983 إلى 1989، حكم نورييغا بيد من حديد.. وقُدرت ثروته حينها بـ 60 مليون يورو.. غير أن المعارضة انتظمت في عهده، ولم يعد الشارع يقبل غير رئيس منتخب، خاصة أن الفساد الإداري والمالي بلغ أقصى حد له في بنما.
في سنة 1989، وتحت ضغط الشارع والمعارضة، قرر نورييغا تقديم مرشح مدني شكلي ليخوض يه الانتخابات الرئاسية. فوقع اختياره على رجل الأعمال الهادئ كارلوس ألبيرتو ديكْ جانْ الذي هيأ له، قبل عملية الاقتراع، مكتبا بجانبه في الرئاسة، وأمر -في حالة فوزه المضمون- بأن لا يصله أي ملف قبل أن يجيزه هو نفسه.
تميز المرشح الشكلي ديك جانْ بالطيبوبة وحسن الخلق (فقد تربى تربية كنسية جعلته ناسكا)، لكن الشعب أخذ عليه أنه قبِل، عن حسن نية، بالمشاركة في لعبة سياسية قذرة ستكون عائقا حقيقيا أمام أول فرصة للتناوب السياسي الفعلي بين العسكر والمدنيين.
كان كيليرمو آنديرا المرشح الأساسي لتحالف المعارضة القوية جدا. بعد عمليات الفرز اتضح أن المرشح الشكلي للرئيس نورييغا لم يكن قادرا على الفوز على مرشح المعارضة، غير أن الرئيس نورييغا أكد، لكل من التقوه، حتى من ضمن الصحفيين، أن مرشحه المدني ديكْ جانْ سيفوز مهما كانت النتائج، أي أنه سيفوز حتى وإن لم يفز!.
قامت الإدارة بفرز الأصوات، فأعلنت المعارضة أن النتائج كانت لصالحها، بينما أعلن النظام أن النتائج كانت لصالح ديك جانْ: مرشح نورييغا. وفي خضم أعمال العنف والتجاذبات، قرر نورييغا إلغاء النتائج مدعوما، في ذلك، بنخبة من السياسيين والمثقفين "المستميتين" في الدفاع عن قراراته..
ولأسباب استراتيجية، تدخلت الولايات المتحدة، في دجمبر 1989، بعد أن قرر جورج بوش (الأب) أن يزيح الدكتاتور نورييغا من الحكم البنمي رغم أنه كان على "صلة" وثيقة بوكالة الاستخبارات الأمريكية. وبالفعل أسقطه بوش في عملية عسكرية سماها "القضية العادلة". وعندما استسلم صاغرا، بعد معركة طاحنة وسط شوارع العاصمة بنما، اقتاده الأمريكيون إلى سجونهم ليخضع لمحاكمات طويلة في واشنطن، وباريس، وفي بنما نفسها، إلى حين وفاته يوم 29 مايو سنة 2017. أما مرشحه المدني الخلوق المهذب، ديك جانْ، فلا تثريب عليه لطيبته وحسن سريرته.
الغريب في الأمر، أن لجنة التحقيق في الجرائم الاقتصادية لنظام نورييغا (التي تشكلت في ظل النظام الجديد المقبول على نطاق واسع) لم تجد أي شخص، من محيطه أو داعميه، يتحمل أية مسؤولية عن أي شيء!!. فهذا الوزير الأول يقول بأنه كان مأمورا وأنه لم يوقع على أي شيء إلا بأوامر مباشرة من نورييغا!!.. وذلك الوزير المدلل لم ينظر محتوى الوثيقة وإنما مرّرها بأمر من نورييغا!!.. وهذا النائب البرلماني يصف "زعيمه التاريخي" نورييغا بأبشع الأوصاف!!.. وهذا القائد الحزبي، ذو الحماس المفرط، يعترف بأنه كان مغفلا، فهو لم يكن يعرف أن نورييغا صاحب شركات لتقشير القنب الهندي!!.. أما الكُتّاب فكلهم إلى الله تائبون لأن نورييغا، كما يقولون، خدعهم بزهده الزائف!!.. وهكذا، في لحظة من الهلوسة السياسية ونداء الأمعاء، قفز الجميع من سفينة نورييغا الآئلة إلى الغرق، والتحقوا بالسفينة الجديدة المتجهة إلى البر الآمن.
وعندما لم يوجد أي أحد يقبل بالمسؤولية عن أي شيء، ولما تبخر "الأحباب" من حول القائد فرادى وجماعات، لمْلَمَ رئيسُ لجنة التحقيق أوراقه، وبدا كمن يقول، متنهدا:
لما رأيت بأن القوم قد رحلوا
وراهب الدير بالناقوس مشتغلُ
وضعتُ عَشري على رأسي وقلت له:
يا راهب الدير، هل مَرّت بك الإبلُ؟
فحنّ لي وبكى، بل رقّ لي ورثى
وقال لي: يا فتى، ضاقتْ بك الحيّلُ
إن الخيام التي قد جئت تطلبها
بالأمس كانوا هنا، واليوم قد رحلوا..!!