في عريشها الشبيه بالخباء المضروب في منطلقة الترحيل القطاع 18، تجلس أم محمود، السمراء المسنة بوجهها الشاحب الذي طبعت عليه كل ملامح المعاناة المريرة وصعوبة مكابدة الظروف ووقع الفقر..
تنحدر المسنة السمراء كما قالت من هضبة لعصابة حيث ترعرعت هناك بين الأودية والغابات وسفوح الهضاب والحقول، تروي ذكريات تنطبع بغبطة وابتهاج على وجهها.. زمان صباها وريعان شبابها، وهي سارحة مارحة بين أترابها وذويها وعشيرتها وعلى أديم أرضها الأم.. هي الموريتانية الأصيلة الصيقة بأرضها
تقول أم محمود: أنا بنت لعصابة.. نشأت في تلك المناطق، بين أهلي وعشيرتي كنت منذ الصغر أعشق لعب البنات "لوزار" وأشارك الفتيان الصغار "اجدعان" في السباق وركوب الحمير وأذهب مع أترابي إلى الحقول والغابات البعيدة نجلب النبق "أنبك" وثمار الكثير من الأشجار مثل "دمبو" و"شكط" وغيرها من الثمار، ونسبح في البرك المائية والآبار، ونجلب الحطب لأهلنا وملعمينا "طلبتن" الذين يعلموننا الكتابة والقراءة، ويحفِظونا ما تيسر من كتاب الله العزيز القران الكريم..
كان الكل منسجما مع الأخر، والألفة والتكافل والتواصل والقربى وفق تعاليم ديننا الحنيف.. هي الناظم المكين لعلاقات مجتمعنا وعشيرتنا في ما بينها، ورغم التباين الكبير في شتى المستويات ماديا ومعنويا، فالكل في النهاية ابن المنطقة وبن الوطن وأخو الأخر في الله وفي الوطن والجار والقربى ..
تواصل أم محمود .. بعد أن أثار أفكارها، بعض الفضوليين من حولها، وكأنها ترد على نفسيتهم المنهارة إلى التفرقة والعنصرية وزرع الفتن بين مكونات هذا الشعب الطيب، فتقول؛
نعم.. كان هناك عبيد وأسياد، وكان هناك شيوخ وأتباع، وجميع الشرائح، ولكن الجميع يتمتع من موقعه بخصال الموريتانيين الأصيلين من احترام ومسالمة وإيثار وتعاون وتكافل، نعم، العبودية كانت موجودة وهي واقع مأساوي وجائر ولا شيء يعدل الحرية من الاستعباد..
لكن الأسرة الموريتانية كانت متماسكة، ولكل منها دور وحق حتى العبد كان في أسرة أهله له حق كل شيء ولا يمنع عليه شيء من حقه ويقوم بعمله، واليوم عندما تحرر الجميع ، لم يعد هناك عبيد فلان ولا فلانة، بل أصبح الكل حرا في نفسه.. لكن العبيد السابقين، تحرر البعض منهم من القيود فعلا، لكنه لم يحرر فكره ولا واقعه.. ولم يستقل هو بنفسه فكريا وثقافيا، كما هو حال جميع أفراد المجتمع.. فظل عرضة لمتاجرة المتاجرين بقضيته، مادام هو حبيس قيود الماضي ويحس نقصا في نفسه دون بقية الناس والمواطنين، وهو أمر مؤسف تقول أم محمود.
فعلى الجميع أن يتحرر من أسر نفسه في قفص الدونية وينعم بالعافية، ويدرس ويتعلم ويعمل ويوظف ويبني ذاته قيميا وأخلاقيا..
"لحراطين" تقول ام محمود ؛
حتى في زمن قيود العبودية الحقيقة، كانوا فتيانا، عمالا مهرة ،ورجالا شجعانا وشعراء، ومفيدين في أهلهم ومجتمعهم والكثير منهم كان له ذكر حسن في جميع موريتانيا نتيجة الأخلاق والاحترام والكرم والدين.
أما اليوم، وللأسف، يحاول تجار القضية دينيا وشرائحيا، أن يجعلوا من "لحراطين" مجموعة مسلوخة من أصالتها ومجتمعها، يبررون لهم السطو والسرقة والاعتداء اللفظي والمعنوي على الناس، بحجة أنهم فئة كذا، وهذا أمر مؤسف، وإساءة لهذا المجتمع الطيب، فلا قيم الدين وتعاليمه، ولا قيم الأخلاق والمجتمعات الحرة تقر هذا، ولا حتى طلب الحقوق بهذه الطريقة من الفتنة والفوضى..
موريتانيا اليوم، دولة وليست قبيلة ولا عشيرة ولا شريحة.. وحتى القبيلة ، تقول أم محمود، هي الأهل وليست العدو، فعلى الجميع، أن يحسن التعايش والمعاشرة بأخوة وسلام، وعدالة وانسجام، ويترك زرع الفتن والبغضاء والفرقة بين الموريتانيين "بيضا وسودا"
لا أحد اليوم، تقول أم محمود، يملك أحدا، ولا احد يمنع أحدا أن يعمل ويتعلم ويبني ذاته، ويتقي ربه ويحسن تربية أبناءه على القيم الفاضلة والدين السليم، لذلك فلا داعي للتفرقة..
نحن، تقول أم محمود.. سنظل موريتانيين أبناء أرضنا وعشائرنا وأهلنا، ولا يمكن تفرقتنا ولا زرع الفتنة بيننا بأي حجة..و إذا كان بعض المتاجرين بالدين والسياسة، يريدون تفرقتنا فلا يمكنهم ذلك؛ لأننا نعي خطورة ذلك، ونعرف هدفهم..
وخلصت أم محمود في حديثها، الداعي لنبذ الفرقة والفتن والعنصرية، إلى أن تدعوا الموريتانيين جميعا إلى العافية، وتدعوا الله أن يحفظ جميع المسلمين من شر الفتن والتفرقة .