إنها القصة المذهلة للأمير البركني المختار ولد سيدي ولد آغريشي أو Mokhtar Sidiكما ورد اسمه في الوثائق الفرنسية، وينتمي للأسرة الأميرية في لبراكنه. تولى الإمارة ما بين 1841 و1843. وقد عرفت فترته صراعات داخلية دامت سنتين وأثرت على المبادلات التجارية مع الفرنسيين الذين قرروا التدخل المباشر في النزاع وفق ما تقتضيه مصالحهم. فما كان من السلطات الفرنسية إلا أن ألقت القبض على الأمير المختار ولد سيدي في يناير 1843 بذريعة أنه الطرف الأقل شعبية في الصراع وبتهمة القيام بأعمال "تخريبية" ضد التجار الفرنسيين. ثم قرر الوالي الفرنسي Bouët-Willaumez Edouard (ت 1871) نفيه إلى دولة الغابون الحالية التي كان أول من تفتح له أبواب سجنها المسمى حصن أومال Fort d’Aumale.
في الحادي عشر من يونيو عام 1844 أبحرت سفينة فرنسية من جزيرة غوريه السنغالية في اتجاه الغابون. يقود السفينة الملازم البحري بريسيه Brisset الذي أوكلت إليه مهمة إدارة حصن أومال في مستعمرة الغابون. يوجد على متن السفينة، بالإضافة إلى الطاقم الفرنسي، ثلاث شخصيات مهمة قرر الاحتلال الفرنسي نفيهم إلى الغابون مع توصية خاصة أن تتم معاملتهم بما يليق بهم من الاحترام حسب ما ورد في الوثائق. الوجهاء الثلاثة، سيكونون بذلك أول فوج من السجناء السياسيين يستضيفهم الحصن الذي تم تشييده حديثا لتدعيم الوجود الفرنسي في المنطقة. تنص الوثائق على هوية واحد منهم وتصفه بأنه ملك سابق لمملكة لبراكنه. وقد دخل معه السجن رجلان، وصفتهما الوثائق أنهما وزيرا الملك البركني.
وتفيد وثائق الأرشيف الفرنسي أن المختار ولد سيدي تمكن من الفرار من الحصن بتاريخ 13 سبتمبر 1844 مصطحبا معه رفاق سجنه بل وأكثر من ذلك، فقد فر معه حراسه الذين كانت مهمتهم هي مراقبته ومنعه من الفرار. لقد تمكن هذا الأمير المجاهد من كسب ود حراسه ونال إعجابهم بمعاملته وأخلاقه واستقامته على دينه فأسلم منهم من أسلم على يديه. لكن الأمير المختار لم يطل الفرار وما لبث أن عاد إلى السجن من تلقاء نفسه بسبب ما ليقه من عداء وطرد من سكان المنطقة؛ وكانوا شبه متوحشين أو وثنيين لم يستطع أن يستغلهم لصالحه لجهله بهم وبلغتهم وشعاب أرضهم. ويشير أحد التقارير إلى أن المختار ولد سيدي كان في نظر السجناء والسجانين بمثابة شيخ وإمام وداعية يتمتع بنفوذ قوي داخل السجن.
ويبدو أن المختار ولد سيدي كان يمتاز بقوة الشخصية والصلابة وروح المبادرة والقدرة على المناورة في أصعب الظروف ويتضح ذلك من خلال لعبه ورقة المنافسة بين الفرنسيين والانكليز. فقد استطاع أن يحرك ملفه بالتواصل مباشرة مع الحكومة الفرنسية في باريس بطريقة لم يستطع الحاكم الفرنسي في السنغال أن يعرفها بحسب ما ورد في الوثائق التي قرأتها. وطالب الأمير المختار ولد سيدي الحكومة الفرنسة بإعادة النظر في قضيته وإطلاق سراحه. لكن ملف "ملك لبراكنه" كما يصفه الفرنسيون لم يلق اهتماما من الادارة المركزية في باريس إلا بعد تعيين فكتور شولشير Victor Schoelcher (ت 1893) كاتب دولة لشؤون المستعمرات. كان شولشير سياسيا استعماريا، لكنه كان جمهوريا متشبثا بالحرية الفردية ومن دعاة إلغاء العبودية؛ وهو الذي أصدر المرسوم القاضي بإلغاء العبودية في فرنسا والمناطق التابعة لها عام 1848؛ كما أنه كان من دعاة تحريم ضرب المعتقلين في سجون الاستعمار ومن المطالبين بإلغاء العقوبات الجسدية. ولا شك أنه كان متفهما ومتعاطفا مع قضية المختار سيدي حيث لم تشغله الأوضاع السياسية الاستثنائية التي تمر بها فرنسا بعد ثورة فبراير 1848 عن مراجعة ملفه وإصدار قرار بشأنه. لكننا لا نستبعد أن يكون هذا الاجراء تم تحت ضغط الجهود التي يبذلها أنصار المختار سيدي في لبراكنه. تشير الوثائق أن بعض المقربين من الأمير البركني المنفي تواصلوا مع الإنكليزفي مارس من العام 1845 في غامبيا وعرضوا عليهم تسهيل الوصول إلى أسواق الصمغ (العلك) إن هم تمكنوا من جعل الفرنسيين يطلقون سراح المختار سيدي. وقد فطن الفرنسيون إلى هذه المناورة؛ فقد حذر بول مارتي منها وقال إن الإنكليز سيبذلون ما في وسعهم للاستئثار بسوق مادة الصمغ. فلربما يكون قرار إطلاق سراح "ملك لبراكنه" كان بهدف قطع الطريق على الإنكليز. ولا يخفى هنا ما أبدى حلفاء المختار سيدي من حنكة سياسية بلعبهم على وتر المنافسة السياسية والتجارية بين فرنسا وبريطانيا.
بادر شولشير بتوجيه رسالة إلى والي مستعمرة السنغال بتاريخ 05 مايو 1848 يأمره فيها بإطلاق سراح الأمير البركني المسجون في الغابون بصفته سجينا سياسيا. وعضد شولشير قراره بجملة من المعطيات، منها أن المختار ولد سيدي قد تم إلقاء القبض عليه وسجنه بشكل مناف لحقوق الإنسان؛ وأن سجنه قد أدى إلى تنامي الأعمال العدائية ضد الفرنسيين في السنغال، وأنه أثر بشكل سلبي على المبادلات التجارية. وقد أشاد كاتب الدولة الفرنسي بسلوك الأمير البركني وبرباطة جأشه وصبره على ما حل به من محنة لا تطاق على حد تعبير الإداري الفرنسي الذي أمر بإطلاق سراح المختار ولد سيدي ورده إلى بلده ومتابعة تصرفاته للتأكد من أنه لن يشكل خطرا على المحتل الفرنسي.
وقد ختم كاتب الدولة لشؤون المستعمرات شولشير رسالته بتقديم درس في نهج الحكامة الرشيدة حيث خاطب الوالي الفرنسي قائلا: "إن الدولة لا تحكم إلا بمبدأي الشرف والولاء. من المهم للدولة أن تظهر أنها لا توافق على أفعال من هذا القبيل (السجن التعسفي) وأن تتبرأ منها. إنها في نفس الوقت مقتضيات السياسة الرشيدة La bonne politique ، لأننا بذلك نبرهن للسكان الأصليين (في المستعمرات) أن الحكومة تعاملهم بنفس مبدأي الشرف والولاء وتنتظر منهم أن يعاملوها بهما."
لكن قصة الأمير البركني توقفت عند هذا الحد فلم تحتفظ لنا الذاكرة المحلية بمعلومات عما آلت إليه حاله بعد قرار إطلاق سراحه وإعادته إلى وطنه. وقد أفرغت الجهد في البحث عن معلومات عنه فلم أجد له ذكرا في المصادر المحلية الموريتانية وهي مسألة تدعو للاستغراب. فلا يوجد له ذكر حتى في موسوعة المختار ابن حامد رحمه الله. وقد رجح بول مارتي Paul Marty في كتابه Les Brakna فرضية أن يكون الأمير البركني المجاهد قد توفي في منفاه بالغابون. وقد خصه الباحث سيدي أحمد ابن الأمير بمقال على الأنترنت تعرض فيه لبعض جوانب حياته. بيد أن مصير الأمير البركني ظل مجهولا فلا أحد يعرف تاريخ ومحل وفاته.
لكنني، بعد بحث طويل، عثرت أخيرا على شهادة وفاته في سجلات الحالة المدنية من الأرشيف الاستعماري الفرنسي في الغابون. لقد توفي المختار ولد سيدي رحمه الله كما ورد في الأرشيف بتاريخ 03 فبراير 1848 (صورة شهادة الوفاة مع المقال) أي قبل ثلاثة أشهر من قرار وزير المستعمرات الفرنسي إطلاق سراحه وإعادته إلى بلده. ويعني ذلك أن الوزير الفرنسي لم يكن على علم بوفاة الأمير المختار ولد سيدي. ولعل الأرشيف الفرنسي يتحفنا مستقبلا بصورة شمسية للأمير المختار ولد سيدي.
وأما الوزيران المرافقان للأمير، فقد ذكرت الوثائق تاريخ وفاة أحدهما واسمه عبد الله وأنه توفي بتاريخ 09 يونيو 1846 وأما الآخر فلم نجد له ذكرا.
وأخيرا وليس آخرا فقد آن الأوان أن نلتفت التفاتة علمية إلى تاريخ المقاومة في بلادنا لكي ننفض الغبار عنه وخاصة ما تعلق منه بأولئك الرجال الذين تم نفيهم عن وطنهم ومجتمعهم وانقطعت أخبارهم ولم نعد نجد لهم ذكرا.
فكم هي أعداد أولئك الجنود المجهولين؟ وما كان مصيرهم في منفاهم؟ ومتى وأين توفوا؟ وبأي طريقة يمكننا اليوم أن نرد الاعتبار لهم؟