ابن القمامة...بقلم أحمد الأمين السالم

سبت, 11/06/2021 - 11:11

حين فتحت عيني على الحياة أبصرت أكياس القمامة تحيط بي من كل ناحية .. كانت غير بعيد مني جيفة شاة يمتد جسر من النمل الأحمر بيني وبينها، ويعلوها البعوض ثم ينتقل عنها إلي ويرجع إليها كرة أخرى .. 
كان شيء مثل النور يتسلل إلى عيني، للحظة أحسست أنني أملك عينين أتفحص بهما الحياة من حولي، كنت أراقب الصراصير تلعب بين ساقيّ وتصعد على رقبتي.. لم يكن يتحرك في سوى عيناي اللتان أغمضتهما دون أن أعرف لماذا؟ .. 
فجأة لمحتُ أحدهم يرمقني بنظرة شفقة، وحوله أوجه محمرة من الغضب يتكلمون بكلام لا أفهمه،
 حاولت جاهدا أن أنطق مثلهم فعجزت ..
 أطلقت صرخة مدوية، ثم صرخات بعدها .. 
تهلل وجه الرجل الذي كان يحملني ورحل الارتباك من عينيه.. لكن نظرة الشفقة زادت وتقطب جبينه .. كان الرجال الذين حوله يشيرون بأيديهم ويهزون رؤوسهم غاضبين .. 
كنتُ أواصل الصراخ وهم يتقدمون بي إلى المجهول، يرفعونني عن الأرض لأرى السماء الزرقاء تتسلقها أشعة شمس صافية تبدو حينا ويحجبها رأس أحدهم أحايين أخرى ..
تفرق الرجال عني غير ذلك المشفق الذي أدخلني داره الصغيرة.. ودار حوار لم أفهمه بينه وبين امرة كانت تلتقط بطانية في صدرها ..  واصلتُ صرخاتي وواصل الرجل المشفق حواره مع المرأة (التي لا تشبهه في شيء غير عينيه الحانيتين) .. 
بعد لحظات لم أعد أذكر قدرها .. وضعتِ البطانية التي تلف صدرها، كان يفترشها كائن صغير مثلي .. أحببتُه يوم رأيته .. -كل شيء ينجذب إلى جنسه- .. على الأقل كانت لغتي وإياه واحدة فنحن لا نتقن غير الصراخ.. 
قربتني تلك المرأة من صدرها الدافئ، تحسسته بفمي ثم ارتويت منه وأنا مغمض العينين أحاول تذكر أي شيء دون فائدة..
أدمنت صدرها فيما بعد..
 كنت كلما شعرت بالجوع أو الظمإ أطلقت صرخات متتالية فتلقمني صدرها في حنان...
مر حولان كاملان وأصبحت أستغني عنها، تعلمتُ كيف أعبر عن الجوع دون صراخ، تعلمت بعد ذلك أن آكل بيدي حين يقدم لي ذلك المشفق خبزا أو حلوى، 
 كنت أنمو أنا وذلك الطفل بشكل متوازن.. غير أنني كنت أطول منه بقليل..
بعد أربع سنوات سرقتُ -ورفيقي- مبلغا من المال وصرفناه في الحلوى .. عنفونا بشدة، لكن تعنيفهم كان أكبر لرفيقي.. قالت له أمه يومَها بالحرف الواحد : أتريد أن تكون مثل ذلك "الفرخ" الذي ليس له أبٌ ولا أم!
رغم صغر سني حينها إلا أن الكلمات أثرت في كثيرا، حين شعرتُ أنها تحط من قدري أمام رفيقي الذي كنت أظن أنني وإياه بنفس الرتبة، لقد رضعنا من الصدر نفسه.. ونشأنا في الدار نفسها.. وفتحنا أعيننا على الدنيا في نفس الأسبوع!
لم تكن كلمات أمه غير بداية لكابوس لم أزل أستيقظ عليه من غفلة الواقع كلما لاح لي بريقُ الحياة .. 
في المدرسة كنت أتجنب الإساءة إلى أي أحد منذ أن خاصمت ذلك الطفل السمين فقال لي : أنا لا أتكلم مع لفروخَ!
رجعت لأبي المشفق يومها و سألته : ما الفرق بيني وبين ابنه رفيقي.. فقال لي : لا شيءَ!
لكن عينيه كانتا تُشعان بالشفقة .. كانت نظراته تذكرني بليلة الصراصير وجيش النمل...
أدركت فيما بعد أنه مجرد "محسن" كما يسميه الحي، وأن التي ألقمتني صدرها ليست أمي .. لأن أمي الحقيقية هي من رمتني بجانب جيفة المعزاة حين خافت أن يتعرف الناس على ملامح أبي الحقيقي!
دخلت الإعدادية بعد أن تأخرت سنتين عن رفيقي .. كنت حين أرسب أو أتغيب لا أجد أي عتاب أو غضب في أعين "أهلي" عكس رفيقي الذي كان يراجع كل ليلة مخافة أن يضرب! 
تعلقت بعشرات الفتيات في الثانوية لكن كل علاقاتي لم تدم أكثر من يومين .. فحين تعلم أي فتاة أنني "لقيط" تتجاهل رد السلام وتقطع حبال الغرام..  
استلمت لواقعي وانسحبت من المدرسة بعد أن توفي المشفق  وعزلني رفيقي الذي أصبح يطردني من مجالس أصدقائه قائلا : اذهب وابحث عن أبيك وأمك فأنت لست أخي!
كانت أمه التي أرضعتني تبعث رسائل الشفقة بعينيها لكن دعوات أبنائها وبناتها لنفي هذا الدخيل انتصرت في النهاية.
تقدمت لعشرات -وربما لمئات- الوظائف لكن أول سؤال كانت تطرحه أعين المديرين : من أي قبيلة أنت! كنت أقول لهم : أنتم تريدون معرفة قبيلتي وأنا أريد معرفة أبي الخاطئ وأمي الفاعلة!
أغلقت جميع المنافذ في عيني، لا أحد يقبل عمل "ابن القمامة" في مكتبه!
 تزوجت ذات مساء بفتاةٍ أشرفَ مني بقليل! فقد عرفوا أمها ولم يعرفوا أباها! 
لم يحضر زواجنا أحد، لم يبارك لي أحد! سمعت أحدهم يهمس : (ولماذا يتزوجان؟)، كان يمكن أن يقتصرا على فعلة أبويهما!
إمام المسجد المجاور لم يرض أن يحضر العقد خوفا على مروءته، رغم أنه يُسمعنا كل جمعة أن الناس سواسية كأسنان المشط! ثم يفتي بعد المغرب أن الصلاة لاتجوز خلف الزنيم!
لم تعمّر أسرتنا كثيرا ولم نحصل على ورق رسمي من الدولة.. فقد كلفتنا بإحضار إحصاء لآبائنا وأمهاتنا! 
اليوم ها أنا أرفل في العقد السادس من عمري دون قيمة .. دون جدوى .. دون محل في الإعراب!
لم تعطني الحياة غير السخرية والاستهزاء.. كان أرأف الناس بي ذلك الذي يبتسم في وجهي ثم يقول لأولاده (لا تصاحبوا ابناء السوء) ..
ها أنا اليوم أسال نفسي : لماذا أتيت إلى الحياة! ما قيمة السبعة والخمسين عاما التي أحرقت أيامها أو أحرقتني ورمتني في سلة المهملات،!
هل أنا حقا إنسان! أم أنني ولدت ليطويني النسيان .. وأرحل بلا أثر.. كما يرحل رعاع البشر..
سأرحل .. قد لا يصلي علي أحد.. وقد لا يشيع جنازتي احد .. وقد لا يبكي علي احد..
لكنني سأرحل إلى ملك الملوك.. الذي حتما لن يسألني عن نسبي، ولن يحاسبني على خطإ أمي وأبي.
وداعا أيها العالمون..
بقلم: أحمد الأمين السالم قبل فترة!