كان المجتمع الموريتاني محافظا إلى حد كبير، فكان يفرض مبكرا -وبصفة قسرية من المنظور النفسي - على الفرد سلوكه وأذواقه (الشوكه من سغرتها امحده...) ومهنته وحتى هواياته وأصدقاءه (خلوه يگبظ صاحبو...). وإذا كان من الممكن تفهم بعض تجليات هذه "الثقافة التقليدية" -التي تتنافى في جزء من مظاهرها مع قيمنا الدينية الجوهرية-، عندما كان الأمن القبلي بأبعاده المختلفة غير متوفر، فإن استمرارها اليوم في إطار الدولة ومقوماتها يشكل، في بعض مظاهره، خطرا يتهدد أمن المجتمع وهويته ولحمته وتطوره السلس، كما يعتبر عائقا رئيسيا في وجه التنمية الاقتصادية والرخاء المادي.
ويغيب عن أذهان البعض أن المجتمع التقليدي بأدبياته المعروفة لم يظهر صدفة، بل يمكن اعتباره "مرحلة" في المسلسل المستمر للتأقلم والتطور ؛ فيجدر بالبعض أخذ البعد التاريخي في الحسبان وتجاوز الشخصنة التى يولدها الأفق الضيق للعمر البشري...
أستغرب دائما أن تكون حقبة الحزب الواحد "أرحم" بالوحدة الوطنية من الحقبة الديمقراطية ؛ فخلال الأولى كانت الصداقة والزمالة تتقرران بناء على التفاهم والإعجاب المتبادل، بغض النظر عن المعطيات الخصوصية.
وبمجرد التبني المبدئي للديمقراطية المعاصرة، انتعشت لدينا العقلية القبلية والشرائحية والفئوية إلخ، في تناقض صارخ مع قيم الديمقراطية الحقة.
أعتقد -والله تعالى أعلم- أن أحد الأسباب الرئيسية لهذا التناقض يكمن في اللبس الحاصل لدى بعض الفاعلين السياسيين (ومن خلالهم لدى بعض المواطنين) بين "الدائرة العامة" و"الدائرة الخاصة". فهؤلاء لايعون أن خصوصياتهم لاتعني الآخرين بأي حال من الأحوال وأن ولوج الفضاء العام (المسجد، المدرسة، المستشفى، الإدارة، السوق، الملعب، المصنع، المطار، الشارع ...) يترتب عليه تبني مسلكيات جامعة قوامها الاحترام المتبادل وتكريس المشتركات.
وتتميز "الدائرة الخاصة" بطبيعتها غير العمومية وبحصريتها على مرتادين بعينهم، الأمر الذي يجعلها مناسبة للتعبير عن الخصوصيات التي لا تصطدم بقوانين البلد.
وأمام رواج الدعاية "السهلة" قبلية كانت أو شرائحية أو فئوية، بمساعدة وسائل التواصل الحديثة، يجدر التفكير في تأسيس "تيار ديمقراطي جامع" يعيد للخطاب العمومي مقوماته ومصداقيته وينبذ الممارسات الضارة لمهنيي خلط الدوائر والأوراق والعصور...