في خضم الحملات بين أطراف الصراع السياسي في الوطن ؛ نحتاج منصة موضوعية لتقييم رجالات البلد بموضوعية
الجنرال الحكيم
يقول نابليون :
إذا كونت جيشا من مائة أسد بقيادة كلب؛ فستموت الأسود كالكلاب في أرض المعركة.
أما إذا صنعت جيشا من مائة كلب بقيادة أسد فجميع الكلاب ستحارب كأنها أسود)
القيادة ملكة وموهبة تعزز بالعلم والمعرفة والخبرة والحكمة والمشورة واحترام الاختصاص .
لا يمكنك أن تصنع قائدا من شخص لا يصلح أصلا للقيادة.
ويستطيع القائد المحنك أن يصنع رجالا من لاشي ء ويصنع أبطالا من حفنة من الجبناء.
القائد هو من يجسد القدوة المثلى لمن حوله فيملأ نفوسهم بالإعجاب به لا من الخوف منه ومن هيبته لا من رهبته.
القائد هو من يستطيع العبور بنفسه وبمن يتبعه أحلك الأزمات بأقل التضحيات مع الاحتفاظ بهيبة القائد وبروح الفريق الواحد مع جميع قواته.
القائد المميز هو من يهتم أولا بمآلات الأمور قبل اتخاذ القرار الحاسم.
ليس ترفا أن تكون من الضباط السامين في موريتانيا؛ ولا يعني حملك للأوسمة والنياشين دون استحقاق جوهري أنك فعلا صرت في مصاف الكبار؛ فالرتب السامية لها ثمنها من الوفاء للوطن والقدرة على الإسهام في كلما يحمي سيادته وأمنه ولحمة أهله.
ليس الضابط الجيد هو من يستعجل إذكاء الحرب ليخوض غمارها؛
افضل الضباط القياديين هم الذين يمنعون اندلاع الحرب أصلا بتحقيق توازن رادع مع العدو يمنع سفك الدماء ويمنع استنزاف مقدرات الوطن في الحروب المدمرة.
وصاحبنا من تلك الطينة النادرة من ضباط الوطن البارزين.
إن بقية الجيل الرابع وطلائع الجيل الخامس من نخبة موريتانيا العسكرية هي من يتصدر المشهد الوطني في الوقت الراهن لأكثر من سبب ؛ منها حضور الذاكرة الانقلابية حتى الآن لدى المجتمع الموريتاني ؛ فآخر انقلابين رسما مسار الأحداث السياسية هما انقلاب 2005 وانقلاب 2008 ؛ والهزات السياسية الارتدادية لهما؛ هزات تشعر بثقلها في دورات الانتخابات الرئاسية بعدهما ؛ بما في ذلك انتخابات 2019 .
ومن تلك الأسباب بروز بصمات مختلفة لكل ضابط سام في المشهد.
بعضهم طوت العواصف السياسية صفحته بما فيها من تميز وخيبة أمل؛ وقلة عبرت أزمات كبرى بحكمة وثبات.
كان للضباط الذين نجحوا في مسابقات الانتماء للجيش والمؤسسات الأمنية مابين عام 1976 و1979 دور لاحق في رسم الخط البياني للشأن الوطني عموما.
وكان الحرس الوطني الذي تأسس في بداية القرن العشرين ؛ وأعيد تشكيله بقيادة أركان في آواخر الستينات له حظه الوافر من رجالات الوطن ؛ لاسيما ذلك الطالب القادم من قلعة الحوض الغربي الأصيلة ؛ فرغم بعد مدينة العيون الجميلة عن العاصمة ؛ فقد ظلت تختزل المسافات بينها وبين العاصمة والإقليم والأمة على امتداد خريطة الوطن العربي بنخبتها عموما ونخب طلابها خاصة.
نخبة الطلاب في النصف الثاني من عقد السبعينات كانت نشطة بما يكفي لتخلق حراكا سياسيا قوميا يؤجج طموح شبابها للولوج إلى الجيش والحرس والدرك ؛ فعبد الناصر وغيره من الضباط الأحرار؛ رحمهم الله؛ كانوا قدوة ذلك الجيل المثلى.
نجح الطالب مسغارو ولد سيدي ولد اغويزي بتفوق في الثانوية العامة ثم في مسابقة الحرس الوطني ليبدأ خطواته الواثقة على دروب خدمة الوطن الطويلة.
كان وهو يافع قوي الشخصية مهابا بين اقرانه ؛ حكيما في ابتكار الحلول لكل عقبة قد تعترض انشطة الطلاب داخل وخارج ثانوية لعيون .
ترقى الرجل خطوة تلو أخرى في جهاز الحرس؛ وقاد وحداته في أغلب تراب الوطن ؛ مما أكسبه سعة معرفة بالمجتمع الموريتاني في كل ولاية.
كان حاضرا في مركز القيادة الميداني بالترارزة أثناء أزمة 1989؛ وترك انطباعا جيدا لدى السكان كعادته أين تولى قيادة وحدات الحرس في الوطن.
كان محط أنظار من كل من يرتبط به في العمل.
كان منذ نعومة أظافره يخوض غمار الحياة ومنعرجات الطموح بروح الفارس العربي الأصيل بخلفية ثقافية مميزة ومكانة رفيعة ورثها جيلا بعد جيل.
مرت السنوات طويلة وهو يكافح بصبر لتسلق سلم الرتب العليا؛ فلم تكن خريطة النفوذ في قمة الهرم لصالحه؛ كما هو حال أبناء الحوض الغربي؛ رغم المنعرج المؤقت في عهد الرئيس الأسبق معاوية؛ حين أبان عن ثقة في نخب الحوض الغربي العسكرية فمنحهم فرصا أكثر جرت لهم خصومات صامتة داخل المؤسسة العسكرية ؛ وانعكس ذلك في تجميد ترقيات بعضهم؛ ظلم جسد لاحقا قسما من محركات انقلاب 2003 الفاشل؛ والذي يعود فشله الحقيقي لامتناع مسغارو ولد سيدي عن اعتقال الرئيس الأسبق معاوية او تحييده؛ وكان نظريا قادرا على ذلك؛ فقد لجأ إلى مكتب مسغارو في قيادة أركان الحرس الوطني ومعه مرافق عسكري واحد غير مسلح ؛ ومسغارو هو من زوده بالسلاح والذخيرة ؛ وكان احد الانقلابيين يتصل به بين الفينة والأخرى مستفسرا عن مكان تواجد الرئيس.
كانت الحكمة تقتضي ذلك؛ فلم يكن مسغارو يحمل نفسا انقلابيا؛ ولاجهوياولاقبليا؛ وكان يستهجن ذلك الانقلاب تماما.
ورغم انقاذه لحياة الرئيس ولكرسي الرئاسة في تلك اللحظات الحرجة من تاريخ الصراع السياسي على السلطة؛ فقد سجنه الرئيس معاوية مؤقتا وتعرض لنقمة عامة موجهة لنخب الحوض الغربي المدنية والعسكرية.
كان عند كل أزمة يكشف عن معدنه النقي وعن حكمته.
أراد له خصومه أفول نجمه كما أفلت نجوم رفاق دخلوا معه المؤسسة العسكرية في نفس التاريخ تقريبا؛ لكن إرادة الله كانت فوق كل ذلك؛ وبدأت حكمة الرجل تبرز أكثر حين عبر كل عواصف الوطن الأمنية والسياسية؛ 2005و2008؛وبدأ حضوره يكبر بحجم الشراكة في القرار من أجل منع انشقاق داخل المؤسسات العسكرية والأمنية بالوطن .
كانت أزمة 2008 ذات الأطراف الظاهرة والخفية معقدة ؛ وكان يراد لبلدنا أن ينتقل من الصراع السياسي المدني السلبي إلى خطوة أكبر هي الصراع بين قيادت المناطق العسكرية ؛ وبين نخب المؤسسة العسكرية في انواكشوط لندخل مرحلة أمراء الحرب !
صحيح أن كتيبة البرلمان لعبت دور المحرك المدني للاحداث ؛ لكن قرار إقالة قيادات الأركان دفعة واحدة وتعيين بدلاء لهم جسد تحولا محوريا كان سيؤدي إلى ارباك عسكري وأمني عام لاتحمد عقباه ؛ فرفض مسغارو ولد سيدي تعيينا مستحقا على قيادة الحرس لمنع مضاعفات بالغة الخطورة على البلد عموما.
وكانت تلك الخطوة منه مرتكزا لما سيأتي من أحداث لاحقة .
لم يكن الجنرال مسغارو ولد سيدي يريد بذلك إلا تجنيب البلد مآلات صعبة ؛ ولم يشركه عزيز في قراراته اللاحقة ؛ وكان كبعض الضباط السامين يؤمن بالجمهورية لا بالانقلابات ؛ وواصل بذل كل جهد ممكن في تعزيز الأمن الشامل من كل موقع تولى قيادته.
أسس وقاد جهاز أمن الطرق في ظرف أمني واقتصادي صعب ؛ وهو جهاز ظل يحمل اسمه حتى اليوم ؛ (مسغارو) ؛ ثم تولى قيادة أركان الحرس وقدم عمليا رؤيته الرائدة كقائد ؛ فحول الحرس الوطني إلى قوة وطنية تنجز بدقة كلما تكلف به من تأمين وحراسة وقادرة على تنفيذ أعمال قتالية دفاعا عن حياض الوطن.
سياسيا غطت الثقة في الرجل كل ولايات الوطن ؛ فكل جماعة شملها استقصائي عنه تعتبره حليفا لها ؛ ومحل ثقتها .
ويعد الجنرال مسغارو ركن ثقة من أركان نظام فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ؛ وهو محام بالغ الذكاء عن النظام وسياساته ؛ خاصة في هذه المرحلة التي تشهد بوادر تمايز حدي بين نسق العشرية ونسق جديد يعول عليه الموريتانيون في تحقيق نهضتهم الشاملة.
كان حضوره ضمن الوفود الرسمية المكلفة بالمهام الخارجية ملفتا ،فهو وإن كان يسافر ضمن وفد سام يقوده وزير داخلية ؛ فهو الذي تحال إليه مهام الحديث باسم بلدنا ؛ لسلاقته وحضوره المميز وقوة شخصيته .
حدث ذلك مرات عديدة في دول خليجية ؛ وكان هو من يدير دفة الحوار مع الملوك والأمراء بل مع رجال الأعمال عبر غرف التجارة والصناعة بحثا عن شراكة استراتيجية اقتصادية تفيد الأطراف كلها.
كان أول لقاء جمعني به ذات غربة في أبوظبي بفندق الاينتر كوتناتال ؛عام 2010 على ما أظن ؛ حين كان ضمن وفد يقوده وزير الداخلية الأسبق ولد ابيليل؛ وقد تبادلت معه الحديث حينها في جلسة انفرادية عن هموم الوطن وقدمت له 21مقترحا قد تخدم بلدنا بمافيها مقترحات تتعلق بالجيش وخطوط الإسناد وغير ذلك؛ أعجبته؛ فسالني هل كنت عقيدا في الجيش وأين تعلمت هذا التخطيط العسكري الميداني والاعلام الحربي والأمني؛ فقلت له لم انخرط في الجيش يوما؛ لكنني أحب المطالعة ولي جوار سابق في قواطع القادسية ورجالها.
كنت أفاضل بين عنوانين للمقال هما:الجنرال البشوش او الجنرال الحكيم وربما أضفت خيارا ثالثا هو الجنرال الظريف؛ فالرجل فعلا يستطيع اضحاكك وانت في قمة التوتر؛ بما يمتلك من حس دعابة رزين جدا.
فلاحظت ان البشاشة لكل الناس جزء من الحكمة يتقنه الرجل؛ لكن حكمته أعمق غورا من البشاشة.
كما أن دعابة القائد مع من حوله من السنة النبوية.
مستمع جيد ومحاور جيد مثقف ثقافة مزودوجة .
يدير مهمته القيادية بكثير من الحزم والبساطة معا.
في مركزه الآن بقيادة الأمن الوطني يمسك الرجل ملفا حيويا هو النهوض بقطاع الشرطة والامن العام؛ و هو ملف يحتاج رفع ميزانيته أولا لتمكين هذا الجهاز المهم من كل وسائل النهوض ؛ في ظرف محلي وإقليمي ترتفع فيه عوامل لها تبعاتها على الأمن العام في بلدنا.
لكن يقول الشاعر العربي
إذا أيقظتك حروبُ العدا
فنّبِّهْ لها عَمْراً ثُمّ نمْ
عبد الله ولد بونا