يتكرر المشهد كل عام في رمضان بالمسجد الأقصى، مصلون ومعتكفون يحاولون إحياء مناسبة تحل كل عام وينتظرونها بفارغ الصبر، فهو شهر العبادة لهم وشهر الروحانية ومناسبة لتذكر الذين يعانون والفقراء والمعذبين في الأرض مثلهم، لكن الجانب الآخر يختار كل عام أن يستعرض مزاعمه عن السيادة والقوة وأننا نحن هنا. ويجيش مع ذلك كل إعلامه والمتعاونين معه في العالم ليذكره بأن الإسلام لم يكن متسامحا أبدا مع اليهود، كما ورد في مقال للمستشار السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي في حكومة مارك ريغيف نشرته «جيروزاليم بوست» (20/4/2022) والذي قام بتلفيق سلسلة من المزاعم، حيث اعتبر المقاومة الفلسطينية في زمن الانتداب معاداة للسامية، وذكر تجربة عز الدين القسام في الثلاثينات من القرن الماضي وأعاد الحديث عن الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين ليؤكد أن معاداة السامية في الإسلام ليست انحرافا عن تعاليمه بل عنصرا فيه. ويأتي كلام ريغيف وسط موجة العداء للإسلام في كل أنحاء العالم، فدعوات طردهم بالقوارب من أوروبا حديث الساسة مثل دعوات إبادة 200 مليون مسلم على طريقة تعامل الحكومة البوذية في ميانمار مع مسلمي الروهينغا، وكذا معاملة الصين للمسلمين. ولا نبعد كثيرا عندما نربط حال الأقصى بحال المسلمين في كل أنحاء العالم، فهو يهمهم أيضا. فقد بدأ التحضير للاستفزاز قبل حلول رمضان، وكنت تسمع بين الفلسطينيين في الضفة وغزة أحاديث تدور حول «حدث كبير» هذا العام نظرا لتزامن رمضان مع عيد الفصح اليهودي «باسوفر» وذبح القرابين في الأقصى أو معبد الهيكل كما يطلق عليه اليهود ويحاولون اقتحامه والصلاة فيه. وتتكرر اقتحامات الأقصى بشكل شبه يومي ويقودها تيار عنصري استيطاني متطرف بعض أعضائه في الحكومة الائتلافية الحالية، وعادة ما تتم الاقتحامات تحت حماية من الشرطة الإسرائيلية «المدربة» كما يحلو للإعلام الغربي وصف الأحداث هناك. وأن ما يجري هو «نزاع» على منطقة للعبادة، ففي تقرير لباتريك كينغزلي بصحيفة «نيويورك تايمز» (22/4/2022) وصف الوضع كالآتي: «مكان مقدس لليهود والمسلمين يعود مرة ثانية إلى مركز النزاع» وقال فيه إن «المناوشات بين الفلسطينيين والشرطة الإسرائيلية في مسجد الأقصى ويعرف لليهود بمعبد الهيكل محملة بالرمزية الدينية والوطنية». وربط ما بين المواجهات في الأقصى والعمليات العسكرية المستمرة في الضفة الغربية والتي اعتقل فيها الجيش الإسرائيلي العشرات من الفلسطينيين وقتل آخرين ردا على سلسلة من العمليات داخل إسرائيل وتركزت الهجمات على منطقة جينين في الضفة الغربية التي جاء منها منفذون لعمليات في تل أبيب.
عقاب جماعي
وبحسب تقرير آخر لـ «لنيويورك تايمز» (16/4/2022) عما يراه سكان مدينة جينين وأهل الضفة عقابا جماعيا لهم وأن سياسة اليد الحديدية لن تزيد الأمور إلا اشتعالا. وقالت فيه إن سكان هذه المدينة الفلسطينية عادة ما يقضون رمضان في متابعة المسلسلات الدرامية والكوميدية التي تصل الذروة فيه أو يصلون ويشربون القهوة أو يدخنون الأرجيلة في المقاهي التي تظل مفتوحة طوال الليل. وفي هذا العام يقضي سكان جينين ليالي رمضان وسط عمليات عسكرية واسعة في داخل الضفة الغربية بانتظار المداهمة المقبلة. وشهدت مدن الضفة الغربية في الأسابيع الماضية سلسلة من المداهمات ردا على عمليات في داخل إسرائيل. وفرضت السلطات الإسرائيلية حظرا اقتصاديا مؤقتا واعتقلت عشرات الأشخاص. وتقول إسرائيل إنها زادت من نشاطاتها العسكرية وركزتها على المدن والقرى التي جاء منها المهاجمون. إلا أن المواطنين الفلسطينيين ونقاد إسرائيل يرون أن العملية تصل إلى حد العقاب الجماعي. وستترك آثارا سلبية وتؤدي إلى تأجيج دورة الكراهية وإراقة الدماء. وقتلت إسرائيل منذ بداية رمضان في 2 نيسان/إبريل عددا من الفلسطينيين وكان آخرهم محمد زكارنة 16 عاما، الذي تقول إمه إنه كان في طريقه لتناول الإفطار مع العائلة بعد العمل. وقتلت أيضا غادة سباتين، 47 عاما، الأرملة وأم ستة أطفال بعد إصابتها في رجلها عندما تقدمت من حاجز تفتيش قرب مدينة بيت لحم. وأطلق النار على المحامي محمد عساف، 34 عاما بعدما أوصل أبناءه إلى المدرسة في مدينة نابلس. وباتت عمليات المداهمة لجينين يومية وتقوم القوات الإسرائيلية بمداهمات في المناطق الواقعة تحت سيطرة السلطة الوطنية. وفي واحدة من الغارات بكانون الثاني/يناير مات فلسطيني-أمريكي عمره 78 عاما وهو قيد الحجز الإسرائيلي في بلدته جلجيليا. وقال دبلوماسي غربي في رام إن أفعال إسرائيل تعمل على تأجيج الهجمات بدلا من احتوائها. وأضاف أن النهج الإسرائيلي يحمل مخاطر خلق موجة من الإحباط واليأس وحس الضحية. وتقول تهاني مصطفى، المحللة في مجموعة الأزمات الدولية «الهدف هو زيادة الضغط لكنه لن ينجح، ولو نجحت لما شاهدنا دوامة العنف التي نشاهدها سنويا» مضيفة أن إسرائيل تعيد إنتاج الرد القاسي نفسه لما ترى أنها استفزازات فلسطينية.
انتفاضة ثالثة
وفي أعقاب عملية تل أبيب، تذكر بعض الإسرائيليين الانتفاضة الثانية 2000- 2005 والتي قتل فيها 3.000 فلسطيني و 1.000 إسرائيلي. وفي جينين بالتحديد تذكر الفلسطينيون تلك الانتفاضة التي تركت آثارها على المدينة ومخيمها، حيث قامت إسرائيل بهدم مئات العمارات ردا على سلسلة من العمليات الانتحارية. وفي عنوان معبر لصحيفة «الغارديان» (22/2/2022) «لماذا يستفزونا» وأشارت فيه إلى مقتل ناشط ببلدة بيتا قرب نابلس والتي تحولت في السنوات الأخيرة إلى مركز للمقاومة ضد النشاطات الاستيطانية في البلدة، وحسب شهادات أهل البلدة فمقتل الناشط فواز حمايل على يد القوات الإسرائيلية الأسبوع الماضي ولد شعورا باليتم الجماعي في بيتا. فقد كان أحد أعمدة المجتمع المتماسك جدا فيها. وقد أصيب بجروح قاتلة فيما وصفته قوات الأمن بـ «أنشطة مكافحة الإرهاب» في بيتا ومناطق أخرى في شمال الضفة الغربية، مدفوعة بموجة قاتلة من الهجمات الفلسطينية داخل إسرائيل. لكنه لم يكن كذلك، فهو وطني تعامل مع شؤون القدس في السلطة الفلسطينية، وناشط في حركة فتح، ولم يكن للرجل ولا بلدته صلات واضحة بالتصاعد في العمليات الأخيرة، بما في ذلك مقتل ثلاثة أشخاص في حانة في تل أبيب في وقت سابق من هذا الشهر. ومع تصاعد التوترات في الضفة الغربية والقدس استيقظ فواز في 13 نيسان/أبريل، مبكرا كالمعتاد لهيئة مسجد عثمان بن عفان قبل وصول الإمام. وبعد ذلك بوقت قصير، وصلت مئات من القوات الإسرائيلية، بحسب السكان المحليين، إلى بلدة بيتا ومحيطها. ويقول الفلسطينيون إن جميع مناطق الضفة الغربية التي استهدفت مؤخرا لم تكن مرتبطة بالهجمات في إسرائيل. إلا ان مناحم كلاين، الأستاذ الفخري في جامعة بار إيلان بالقرب من تل أبيب والأستاذ الزائر في قسم دراسات الحرب في كينغز كوليدج لندن، قال إن فكرة الغارات كانت «لردع» الفلسطينيين. «انها كانت لأجل إظهار أن الجيش قادر على كل شيء واستعادة السيطرة». وهو شكل من أشكال العقاب الجماعي وإن لم يقله الأستاذ الجامعي هذا.
مخاطر التصعيد
وتزامنت أحداث الأقصى في العام الماضي والحرب على غزة بالمداهمات التي قامت بها الشرطة الإسرائيلية والتعبئة الدولية ضد محاولة المستوطنين طرد أهالي الشيخ من منازلهم باعتبار أنها مقامة على أرض كان يملكها اليهود. وردت في ذلك الوقت حماس على التصعيد الإسرائيلي بتصعيد آخر، وأمطرت إسرائيل بوابل من صواريخها، لكنها هذا العام وحسب مراقبين لا تريد تصعيدا يقود إلى حرب واسعة، وبحسب دبلوماسي غربي نقلت عنه صحيفة «واشنطن بوست» (21/4/2022) قال «لا يريدون حربا كبيرة» فهم «لا يزالون يقومون بإعادة البناء من السابقة» وبحسب الصحيفة فقد أرسلت الحركة إشارات من خلال اتصالات معها عبر قنوات سرية أنها لا تريد التصعيد، فهي تكتفي هذه المرة بالخطاب الكلامي ودعوة الفلسطينيين للتظاهر. وفي تقرير لموقع «ميدل إيست آي»(19/4/2022) كشف فيه ان قادة حماس في غزة تلقوا 150 مكالمة في 48 ساعة ضمن جهود لمنع اندلاع حرب جديدة في غزة. وقال مصدر مقرب من حماس إن الولايات المتحدة التي لا تتعامل عادة مع قادة غزة مباشرة أو تقوم بوساطات، اتصلت عبر طرف ثالث بهدف الحفاظ على الهدوء في القطاع. وبحسب مصادر سياسية ومحللين فإن حماس ليست مهتمة بالتصعيد وتكتفي هذه المرة بلغة التهديد. وهو موقف بدا من خلال التواصل مع مصر لكي تخبرها أنها ليست مسؤولة عن الهجوم الصاروخي. وأنها تحاول احتواء نشاطات حليفتها الجهاد الإسلامي والتحذير ضد أي تصرف فردي بعد التهديدات التي أطلقها زعيمها من بيروت، زياد النخالة. وأكدت الحركة انها ستتعامل مع حركة حماس من خلال «غرفة العمليات» ولن تتخذ قرارا فرديا. فمنذ بداية المواجهات في القدس أصبحت حركة حماس مركز اهتمام الوسطاء العرب والأجانب. ويرى محللون ان محاولة منع حرب في غزة مرتبط بانشغال الولايات المتحدة بالحرب في أوكرانيا ولا تريد والحالة هذه أن تحرف مواجهة جديدة نظرها عن محاربة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وأكدت تقارير في الصحافة العبرية هذه المعلومات وعن دور تركي وأمريكي في التوسط مع حماس. وفي ضوء تصفير أنقرة مشاكلها في المنطقة وعودة العلاقات مع إسرائيل فقد عبرت عن رغبة بالتوسط في موضوعات مثل تبادل الأسرى إن قاد ذلك لنتائج جوهرية. وأظهرت الوساطة بين حماس وإسرائيل أن الطرفين لا يرغبان في حرب جديدة، مع تأكيد ضد طرف على أهمية «الخطوط الحمراء» فحماس لن تسكت على استمرار اقتحام المتطرفين والشرطة الأقصى. ومن جهة أخرى لن تسكت إسرائيل على إطلاق الصواريخ من القطاع. ويظل الوضع متوترا حتى تتوقف الاستفزازات من اليمين المتطرف.
الخوف على الحلفاء الجدد
وفي قلب الجهود الإسرائيلية لمنع مواجهة واسعة هو الخوف على علاقاتها مع دول عربية أقامت معها تحالفات وأخرى فعلت علاقاتها الساكنة منذ وقت. وكما أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» فإن المواجهات أدت إلى «نقد نادر» من الدول العربية التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل، الإمارات والبحرين، ولكن ما التقطه الشارع العربي هي المكالمة بين وزيري خارجية إسرائيل والإمارات وما قاله يائير لابيد بأن الإمارات «تتفهم» وضع إسرائيل. واللافت في تقرير الصحيفة ثناءها على إدارة الشرطة الإسرائيلية للأزمة مع نقد خفي لها لأنها استخدمت الرصاص المطاطي وذهبت أبعد في منعها المصلين المسلمين دخول الأقصى يوم الأحد وسمحت للزوار اليهود. والمشكلة في رؤية الإعلام الغربي عندما يتعامل مع الوضع في فلسطين تصويره الواقع بانه نزاع بين متطرفين حتى عندما يتعلق الأمر بالصلاة في القدس. ومن هنا نقلت الصحيفة عن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود اولمرت «المنظمات الفلسطينية لم تكن تحضر لهذا بل وكانت تدعو إليه». ونعود مرة أخرى لاستفزاز مشاعر المصلين، فما يريده المتعبد في الأقصى هو قضاء وقت هادئ مع ربه في الأيام الأخيرة من رمضان، ولا يريد اقتحامات بذرائع لا أساس لها. وفي مقال بصحيفة «معاريف» الإسرائيلية (21/4/2022) بعنوان «هل يدرك مشعلو الثقاب معنى المساس بمشاعر المسلمين في الأقصى؟» وقال فيه ألون بن دافيد «يصعب علينا أحياناً نحن الإسرائيليين، خصوصاً العلمانيين منا، أن نفهم عمق معنى الحرم للعالم الإسلامي وأي شدة تفجير هائلة ينطوي عليها برميل البارود الذي يسمى الأقصى. رمز مقاييسه متواضعة، نحو 135.000 متر مربع فقط، ولكنه يلمس الإحساس الديني لكل مسلم، وقد يخرج إلى الشارع أناساً من نواكشوط في موريتانيا وحتى جاكرتا في إندونيسيا». وذكر قصة موقف قرويين مصريين ألقوا القبض على طيار مصري وأشبعوه ضربا وسألوا هل حرقت الأقصى عام 1969؟ فكان دفاعه عن نفسه بأنه ليس مسؤولا. وهناك تكمن المشكلة في عدم احترام المتطرفين والشرطة والدولة لمشاعر المسلمين في فلسطين، والتصرف الإستعلائي دائما. ومن هنا يفهم الفلسطينيون أي محاولة مهما بررها المدافعون عن الدولة وكتاب الأعمدة في الصحف على انها محاولة لتغيير الأمر الواقع. وليست هذه المرة الأولى التي تحدث فيها المواجهات، بل وتتكرر كل عام، حيث يتم تخريب بهجة وفرحة رمضان ولياليه. والشق الآخر في مقال بن دافيد هو أن الشركاء الجدد في المنطقة سيشعرون بالإحراج من رؤية المشاهد، فقصة الطيار الإسرائيلي حدثت عام 1969 ولم يكن هناك إنترنت ولا تواصل اجتماعي، أما اليوم فنحن نعيش في عالم مختلف. والمسألة بالنسبة لبن دافيد هي رد على مشاعر «الشبكة الإسلامية الغارقة بالتحريض» وهذا واضح بالنسبة للأردن الحريص على علاقاته الإستراتيجية مع إسرائيل. وفي المكالمات الهاتفية بين عمان وتل أبيب، طلب الأردنيون الصبر من محادثيهم الإسرائيليين. «لا مفر» و«يتعين عليكم تحمّل النقد» والنقد الذي أطلق علنا كان قاسياً وفظاً. لكن الحلف الإستراتيجي والتعاون الوثيق لن يتضررا، كما وعدوا. وهناك أقوال مشابهة من أبو ظبي والمنامة وكذا أنقرة التي قدمت بادرة وهي أن: صالح العاروري، المسؤول عن الذراع العسكري لحماس في الضفة، لم يعد يظهر في مكان إقامته في تركيا، وهو في الأسابيع الأخيرة يقضي أيامه في لبنان. وفي النهاية ليست هناك حاجة لبن دافيد التذكير بأن تصريحات المسؤولين العرب لا تعني شيئا لمواطنيهم، فهؤلاء يريدون ألا تدنس مقدساتهم واحترام أيامهم الدينية.
القدس العربي