جلجل صوتُ المفوض، محاولا ترويع الفتى الولهان، العاشق، الكلِف. حمل هراوته في وجه الفتاة المغرمة، المشغوفة، المتيمة.
صدح القاضي وأرعد، محاولا تفزيع المستهام وترويع الهائمة.
بالفعل، كان لهما ما أرادا. وما هما بالجانيين، وإنما تعلما من هاروت وماروت. فلا عليهما. فهما جزء من منظومة ثقافية حضارية صحراوية-إفريقية عصية على التطويع.
لكل أمة أساطير وأمثال أسست عليها علاقاتها وبنيتها الاجتماعية الهرمية. من الأمم من فهمت أن الأمر لا يعدو كونه مجرد سلاسل تاريخية وضعتها الصدف، بدرجات متفاوتة، في أرجل الأمم والشعوب والأعراق والقبائل. ومن سكان المعمورة من استطاعوا التخلص من تلك السلاسل بفعل عقلانية نخبهم وإرادة قادتهم وجدوائية نُظم التعليم فيهم، ومنهم من تخلصوا من جزء منها، ومنهم من ما تزال تكبّلهم.
الأمر أكبر من القاضي والمفوض. استوعبا أم لم يستوعبا خطاب ودان. لا تثريب عليهما على كل حال، لأنهما، مثلنا جميعا، ظلا حبيسيْ سلاسل عجزت نخبنا عن تخليصهما منها.
الشيخ المسن، صاحب الحكمة فينا، مرشد الأجيال، اللصيق، ليل-نهار، بمايكروهات كل إذاعة وقناة، يفتأ حاملا تحت إبطه "ألف ليلة وليلة". والأشيب الهرم، صاحب التجارب والمآرب، لا يطرّز خطبَه إلا بـ"كليلة ودمنة" و"كتاب البخلاء"، وعنتريات ديلول.. وبين الشيخ المسن والأشيب الهرم يموت العقل، ويطيش الفهم، ويهبط الذوق، ويتقوقع المجتمع، فيضيع المستقبل.
محكومون، نحن، أبدا بالميثولوجيا. لأن نخبنا فاشلة في تفكيك عقدة الواقع وإعادة بناء العقل الموريتاني بعد أن هدمته القبيلة، والريع، والتراتب الهرمي الزائف. لقد أنتج مفهومُ "الخيمة الكبيرة" واحدا من أكثر المطبات الواقفة دون التمازج والهجانة. يقولون، في التراث الأسطوري لبلاد السيبة: "إذا تلامست الجلود، تساوى الجدود". ويعتقدون، حدّ التصوف، أنه بمنع زواج "الأدنى" بـ"الأعلى" يحافظون على تراتبية المجتمع التي تحافظ لهم، بدورها، على مكانتهم وامتيازاتهم (في الدين والسياسة وريع النهب واقتصادات الاحتكار). لذلك يرفضون، ما أمكنهم ذلك، أن يلامس جلدُ الحداد أو الحرطاني أو المطرب جلدَ الحوريات الكواعب الأتراب من الطبقات الواقعة على رأس الهرم.
كيف نحارب الميثولوجيا والأمثال القاتلة للرقي والمواطنة؟ كيف نقدم البدائل عن ماض بات شديد التحكم في الحاضر؟ لماذا نبقى في المرابع الجافة الجدباء بعد أن غادرت إبل جميع الأمم إلى المراعي المعشوشبة الخضراء؟.. أسئلة منوطة بالنخبة الغائبة الفاشلة. أما نحن -معشر العوام- فلا نعرف إلا أن شيخا من أعيان أبناء "الخيمة الكبيرة"، لما انتهى من الاستماع إلى خطاب ودان، التفت إلى ابنته المدللة، فرَبَتَ على منكبها، وقال بنبرة الآمر المطاع: إذا أردتِ أن تقتلي القملة، بلِّلي بلسانك ظفر إبهام يدك اليسرى.. خذي القملة بسبّابةِ وإبهام يدك اليمنى. ضعيها على ظفر إبهام يدك اليسرى. واضغطي عليها بإبهام يدك اليمنى. وقولي لفتى أحلامك: نحن جوهرة الكون، وأبناء الأنبياء، وملاك أمجاد البشرية، إذن لا مكان لك في خدري. ثم امسحي دم القملة على ساقك الناعم، فنحن صناع التاريخ.