
في واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في موريتانيا خلال السنوات الأخيرة، تتقاطع خيوط التهريب، الفساد، النفوذ السياسي، والخطاب الديني في ملف "حبوب الهلوسة"، الذي أزاح الستار عن شبكة معقدة تدير نشاطًا مدمّرًا تحت غطاء القانون، بل وتحظى بحماية من قِبل رموز في السلطة.
ثروة مفاجئة وأسئلة معلّقة
بداية الخيط تعود إلى قرية انعيمات الهادئة، التي تحوّل شيخها الحسن ولد الشيخ من تاجر أعلاف بسيط إلى رجل ثري يُحاط بعلامات الترف والبذخ: سيارات فارهة، ساعات باهظة، إنفاق سياسي مفرط. لم يكن هذا الثراء المفاجئ مجرد مصادفة؛ إذ اتضح لاحقًا أنه ثمرة مسار موازٍ بعيد عن التجارة الشرعية، مسار عنوانه "حبوب الهلوسة".
الأكثر إثارة أن أحد رموز هذه الأسرة هو محفوظ ولد الوالد، المعروف بـ"أبو حفص الموريتاني"، مفتي القاعدة السابق، والذي سبق أن أفتى بجواز الاتجار بالمخدرات (الأفيون) لتمويل العمل الجهادي، ما يُعيد طرح تساؤلات عن تداخل الخطاب الديني المؤدلج مع التربّح من الإجرام المنظّم.
حين تتحول الصيدليات إلى مستودعات سموم
الوجه الثاني للقضية هو محمد لنوار ولد محمدن، الذي بدأ حياته في تجارة مغشوشة بشارع الرزق، ليقفز فجأة إلى قطاع الصحة من دون أي مؤهلات. افتتح صيدلية "مكة المكرمة"، التي تحوّلت إلى واجهة لترويج أخطر أنواع الحبوب. ومن اللافت أن الرجل سبق أن أدين في تهريب سجائر عبر الميناء، لكنّ "عفوًا خاصًا" من محمد ولد بوعماتو أعاده إلى الساحة، في تكرار لنمط الإفلات من العقاب.
أرقام صادمة: أكثر من 12 مليون حبة
العملية الأمنية الأخيرة التي أطاحت بشبكة محمد لنوار كشفت عن كمٍّ مذهل من الحبوب:
858 كرتون، وكل كرتون يحوي 100 بكط، وكل بكط 15 بلكت، وكل بلكت 10 حبات.
إجمالي تقديري: أكثر من 12 مليون حبة.
تنوّعت الأصناف بين حبوب منع الحمل، أدوية السمنة، وأخطرها "گاردينال" وهي مادة مهلوسة شديدة التأثير.
المثير للقلق أن بعض هذه المواد تُستورد من دول مثل الهند والصين عبر قنوات رسمية، مستخدمةً صيدليات مرخّصة كمستودعات خلفية. وقد استخدمت صيدلية مغلقة قرب جسر مدريد في نواكشوط كنقطة تخزين رئيسية.
الدولة في اختبار حاسم
إن الانكشاف المفاجئ لهذه الشبكة لا يبدو وليد الصدفة، بل يشي بوجود صراع داخل أجهزة الدولة نفسها، وربما محاولة لإزاحة "حمولة محرجة" تموّل أجنحة معينة في السلطة. فكما تم التعامل مع أسرة أهل الشيخ آياه في ملف ولد ودادي، يبدو أن هناك إرادة لعزل أسرة ولد الشيخ لتفادي مزيد من الإحراج السياسي، خاصة مع اقتراب استحقاقات انتخابية.
ختامًا: هل الدولة قادرة على الحسم؟
ما كشفته قضية محمد لنوار والحسن ولد الشيخ يتجاوز مجرد تهريب أدوية. إنها نافذة على منظومة كاملة من الفساد المتشابك: إداري، سياسي، ديني، وتجاري. ولعل أبرز ما يفرض نفسه الآن: هل تملك الدولة الإرادة الحقيقية لتفكيك هذه الشبكات ومحاسبة الفاعلين مهما كانت مناصبهم ومرجعياتهم؟ أم أننا أمام فصل آخر من فصول "العدالة الانتقائية" التي تحاكم الحلقة الأضعف وتترك رؤوس المنظومة في مأمن؟