عَبرتُ نَهر السِّينغال الوَديع, وجُبت أرَضينَ مُتبرِّجةً لِمُقلَة السَّماء, وركِبتُ بَحرا تَتراءى جزائرُه كحبَّات وَشيٍّ مُرصَّعة, فما ملَّت عَيني من السِّباحة في فَلك شُعوبٍ كانت لهم في مَساكِنهم آية.
خُصوبةُ أرض وعُذوبة ماء وثراءُ بَحر ومُلاءمةُ هواء.. نِعَمٌ حَفَّت تلك المجتمعات العاملة, ونزلت بها السَّكينة على أجيال كثيرة أنجبَتها تلك الأصقاع الَّتي تمَّت النِّعمة عليها بدخول الإسلام إليها في القرن 11م, ثُمَّ انتَشر فلم يَبق منها صُقع إلّا ويَخترِق نِداءُ الحقِّ أسماع ساكنيه ليُشنِّفها بشُنوف الإيمان.
وهناك أيضا في تلك المساكن المعبِّرة بدَت ليَ آثارٌ لا تَزال مرقومة على صفحات أحزان الدُّنيا..حيث قطع أقوامٌ البِحار وسَبروا الأغوار لينشِبُوا مخالبَ الرِّقِّ القبيح في تلك المجتمعات المحلِّقة في فضاء الحرِّية, ويَرسموا أبشعَ أنواع الاستغلال على أديم بِقاعها السَّخية.
في جزيرة غُوري (île de Gorée) بدَت لي آثارٌ سافرةٌ من تلك الأحقاب الجهنَّمية, آثارٌ طوتها تلك الجزيرةُ بصمت ناطق, ولو مَزجتها بماء ذلك المحيط لَمزَجته.
قُبيل منتصف القرن 15م رأى البرتغاليُّون تلك الجزيرة لُقمة سائغة فاحتلُّوها بِنَهم, وبعد أزيدَ من قرن احتلَّها الهولنديُّون ومكثوا فيها نحوَ تسعين سنة, وسمَّوها الميناء الجيِّد, ومِن تَسميَّتهم لها اشتُق اسمُ غورى (Goede Reede) الَّذي عُرفت به, ثمَّ قاد إليها الفرنسيُّون عساكرَهم مُجدِّين, ونازعهم فيها البريطانِيُّون حتَّى استقرَّت للفرنسِيِّين سنة 1817م..
وخلال تلك القرون وما خَلَفها من عقود طويلة كانت الجزيرة حصنا احتلاليا مُسلَّحا وميناءً نَشطا لتجارة الرَّقيق في السَّاحل الإفريقي وسِجنا بَشِعا لانتهاك الكرامة الإنسانية.
الأفارقة الَّذين أحبُّوا أرضهم وخَبَروها وكانوا في ديارهم يعملون مطمَئنِّين لم يَخطر ببالهم أنَّهم سيؤخذون في السَّلاسل والأغلال إلى "دار العبيد", وربَّما مكثوا فيها أشهرا في زَنازين مثل مغارات الكهوف الضَّيقة قبل أن تأتيَ السَّفينة, فيُدفعون إليها من باب يُطلُّ على فضاء لا يَضيق إلّا عن أرضهم وحرِّيتهم..في رحلة ذهاب ليس بعده إياب.
عشرات الملايين من الأفارقة أُخذُوا عبيدا إلى أوربّا وأمريكا خلال تلك القرون السَّحيقة..لم يَرجع منهم إلَّا المرضى الَّذين كانُون يُرمَون في البحر, فيُلقي البحرُ جُثَثَهم وعظامَهم بالسّاحل.
ناهيكم عمّن ماتوا من مشقّة نَحت الجبال وحَمل الصُّخور وبناء مواضع الأسلحة الثَّقيلة وتشييد حُصون القادة ومنازل السَّادة..ومنهم من ماتُوا في قُيودهم كما وقع أيضا لكثير من الرِّجال الأبطال والنِّساء والوِلدان في دار العبيد وغيرها..ولا تزال آثارُهم مُفصِحة لكلِّ أُذُن واعية, حيث نَحتَت عظامُهم قِصَصهم على تلك الجزيرة الصَّلبة.
وقفت في دار العبيد بوصيد باب رِحلة الرِّق والعذاب, وسمعت صوت أحدِ الأدلَّاء يقول لبعض الغربِيِّين مشيرا إلى الباب: (Door of No Return) فانبجست من الذِّكرى عُيون تسقي جَفاف الأيَّام الحزينة.
تذكّرت دعاة تفضيل العِرق الأبيض الَّذين يدعون إلى طرد غيرِهم وردِّهم إلى ديارهم حين عزَّ الاستعباد..وقد كان أسلافُهم هم الجالبين لغيرهم استرقاقا واستغلالا بوحشيَّة عزَّ في التَّاريخ نظيرُها.
كما تذكَّرتُ دعاة التَّمرُّد على الإسلام, واتِّهامِه ونُكران أثَره الخالد..الَّذين يُعطون لاختلاق الأساطير عليه أكثرَ ممَّا يُعطون لاستنكار مساوئ الغربيِّين..كما في كتاب "Génocide voilé" "الإبادة المُحجَّبة" للأنتربولوجي السينغالي الفرنسي التِّجاني انجاي، والَّذي يتَّهم فيه المسلمين العرب بالإبادة الجماعية للأفارقة السُّود خلال ثلاثة عشر قرنا, وغزوهم وبيعهم وتعذيبهم..فكانت مأساةً مسكوتا عنها صنعها المسلمون العرب, وهو ما يُسمِّيه الكاتب زُورا: " La traite arabo-musulmane"
إنَّ أدنى ثمرات آثار الإسلام هناك سلامٌ متفاوح..فقبل أن يقول لك الولفيُّ: "ننك دَفْ" أو الفلَّانيُّ: "امبدَّا" أو السوننكيُّ: "أمُوغُو" أو البمباريُّ وغيرُهم أيَّ تحيَّة..يَهتف اللسان منهم مهما كانت العُجمة: "السَّلام عليكم" ولولا محاربة الغرب وتشويههم للإسلام لكانت الرِّياضُ أروعَ والثَّمرات أينع.
وشتَّان ما بَين أثَرٍ إحيائيٍّ لا يَزال ماكثا يُؤتي أُكلَه كلَّ حين, وبين أثر احتلاليٍّ غاشم, ذهبَ جفاءً ولم يَنفع, ثمّ زاد الخَرقَ ولم يَرقَع.!!